وإن شرعية القصاص على النحو الذي ذكره القرآن الكريم فيه حفظ للأنفس ، وإشاعة للطمأنينة في النفوس وإرهاب للعصاة المتمردين على المجتمع ، وإحساس بالراحة ، ولذلك قال تعالى:{ ولكم في القصاص حياة} وإن هذه الكلمات السامية أبلغ تعبير عن آثار شرعية القصاص في الأمة .
والقصاص كلمة عامة يشمل القصاص في الأنفس الذي اختصت به آية القصاص ، إذ قال تعالى:{ كتب عليكم القصاص في القتلى} أما في هذه الآية{ ولكم في القصاص حياة} فإن القصاص في الضرب واللطم على ما حققه فقهاء السلف ، وأخذ به الإمام أحمد .
وفي قوله تعالى:{ ولكم في القصاص حياة} تعميم للقصاص مع تعريفه بأل التي تفيد الاستغراق ، وتنكيره لكلمة حياة ، والتنكير هنا للتعظيم ، أي حياة سعيدة هادئة مطمئنة خالية من عبث السفاكين ، واعتداء المعتدين واستهزاء المستهزئين . هي حياة كريمة تظهر فيها الفضيلة ، وتختفي فيها الرذيلة ، تحترم فيها الحقوق ، وتحقق فيها الواجبات ، يقام فيها العدل ، ويختفي فيها الظلم ، ويتحقق الاجتماع ، ولا يكون التنابذ والافتراق فلا شيء يربط الحياة بين الجماعات والآحاد سوى العدل والحق .
وكلمة الله السامية:{ ولكم في القصاص حياة} اشتملت على إيجاز القصر البليغ إلى ما لا يصل إليه إلا كلام رب العالمين ، ولقد كان هناك مثل سائر في العرب ، يقولون إنه أبلغ الكلام في إيجازه ، وأعمقه في أدائه ، وهو قولهم:"القتل أنفى للقتل"، وعقد بعض العلماء موازنة بينها ، وبين الجملة السامية{ ولكم في القصاص حياة} وقد استنكر ابن الأثير هذه الموازنة ، لأنه لا يوزن كلام الله تعالى بكلام أحد من الناس ، وعقد هواة الموازنة ربما يكون فيها تنزيل من مقام المعجز الذي لا يستطيع أحد من البشر أو الجن أن يأتي بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
وإن الموازنة انتهت بأنه لا يمكن المماثلة بين كلام العرب وكلام الله تعالى ، وأنه بالنظرة العابرة نرى كلام الله تعالى في مكانة وكلام العرب في دركه ، فنجد أولا التكرار في لفظ "القتل أنفى للقتل"، ولا تكرار في قوله تعالى:{ ولكم في القصاص حياة} ونجد أن الآية تدل على القصاص العادل ، و"القتل أنفى للقتل"لا تدل على القتل العادل ، بل تدل على مجرد القتل ، ونجد أن القصاص يشمل القتل وقطع الأطراف ، بينما كلمة العرب لا تدل إلا على القتل فقط ، ونجد أن لفظ العرب لا يدل على حياة الجماعة ، بينما أن النص القرآني السامي لا يدل فقط على نفي القتل بل يدل على قيام الحياة الكريمة من هذا القصاص العادل ، وإن المقابلة بين القصاص والحياة الكريمة تبين منزلة العدالة في القصاص .
وهكذا نجد أوجه الإعجاز في هذا الإيجاز بما لا يمكن أن يصل إليه كلام مهما بلغت مكانته من البيان عندهم ، فهي بلاغة تليق بكلام الإنسان ، وتتقاصر عن أن تصل إلى كلام الديان ، وكلام الناس يجري في مساره ، ولا يصل إلى برج القرآن الأقدس ، تعالت كلماته وتعالى منزله .
ولقد قال تعالى مخاطبا الذين يدركون ما في القصاص من ثمرة وهي الحياة العزيزة الآمنة الطاهرة من رجس الآثام وفسق الفساق واعتداء المعتدين ، فقال تعالى:{ يا أولي الألباب} الألباب جمع لب وهو العقل المدرك الذي لا يكتفي في إدراكه بمظاهر الأمور ، فهؤلاء أصحاب الألباب التي تغوص إلى الحقائق فتدركها .
ثم قال سبحانه وتعالى:{ لعلكم تتقون} ، ولعل هنا للرجاء من الناس لا من الله تعالى ، فالتقوى منهم وهو سبحانه وتعالى يتقبلها ويقرب بها عباده إليه سبحانه وتعالى ، فالتقوى رجاء من عند الله تعالى أن يتقوا بها عذاب النار وأن يتقوا في جماعتهم كل ما يفرقها ، ويعملوا على أن يقوا من شر فسق الفاسقين واعتداء المعتدين . والله سبحانه وتعالى ولينا ، وهو نعم المولى ونعم النصير .