وقوله: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) .
أما قوله: ( ولكم في القصاص حياة ) فهو غاية في الإيجاز والإحكام والروعة بما يعبر عن المقصود في جلاء واضح وبيان فصيح .فقد جاء في الأمثال البليغة لفصحاء العرب ،أو الكتب المتقدمة في قول آخر: ( القتل أنفى للقتل ) وهذه العبارة رغم إيجازها وفصاحتها فإنها لا تعدل في ميزان البيان والفصاحة شيئا إذا ما قيست بقوله سبحانه: ( ولكم في القصاص حياة ) فلا ريب أن القصاص زاجر كبير للناس ؛إذ يبعث فيهم اليقظة والخوف ؛كيلا يعتدي بعضهم على بعض ،وقد ذكر أن العرب كانت إذا قتل الرجل الآخر استشاط قبيلاهما فاقتتلوا فيما بينهم بما يوقع بينهم عداوة وإزهاقا للنفوس حتى إذا شرع القصاص أمسكوا جميعا عن القتل .
لذلك فإن تشريع القصاص في الإسلام يحقق للناس الأمن والاستقرار وسلامة النفوس ،ويحفظ عليهم المهج والأبدان .وبذلك تصان الأرواح وتحفظ الحياة .
وثمة مسألة تعرض في هذا الصدد وهي: هل لأحد أن يقتص بمفرده من أحد غيره ؟فإن المتفق عليه بين أهل العلم أن إقامة الحدود وتنفيذ القصاص مما أنيط بالسلطان فالحاكم أو نائبه هو المكلف شرعا أن يقيم العقاب على الجاني ،والقاتل خاصة .فليس للأفراد أن يقتص الواحد فيهم من غيره وإلا وقع التجاوز وعمت الفوضى ،فضلا عن أن ذلك افتيات على سلطة الدولة المكلفة بذلك{[207]} .
وإذا اعتدى الحاكم فقتل عمدا فهل يُقتص منه ؟
فقد أجمع العلماء على أن الحاكم عليه أن يستقيد ( يقتص ) من نفسه للمعتدى عليه وذلك إن تعدى على أحد من الناس عمدا .فإنه ليس من فضل له على الناس أصلا إلا أنه قائم على شؤون الرعية يسوسهم بالعدل ويقيم شريعة الله .والأصل في ذلك أن المسلمين تتكافأ دماؤهم{[208]} .
وقد ثبت عن الخليفة الأول أبي بكر- رضي الله عنه- أنه قال لرجل شكا إليه من عامل قطع يده: لئن كنت صادقا لأقيدنك منه .
وروى النسائي في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله ( ص ) يقسم شيئا إذا أكبّ عليه رجل ،فطعنه رسول الله ( ص ) بعرجون كان معه فصاح الرجل ،فقال له رسول الله ( ص ):"تعال فاستقد "قال: بل عفوت يا رسول الله .
وذكر أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه .فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين !لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه ؟قال: كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله ( ص ) يقص من نفسه .
وذكر عنه –رضي الله عنه- أنه خطب الناس فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ،فمن فُعل ذلك به فليرفعه إليّ أقصه منه .
وقوله: ( لعلكم تتقون ) أي تتركون القتل العمد فتسلمون من الموت قصاصا ،وتحفظون بذلك حياتهم وأرواحكم من الهلاك .والتقوى هي اسم جامع لفعل الخيرات والطاعات وترك المعاصي والمحظورات .