عقب دخولها على الطيب بحرف الفاء ، الذي يؤذن بأنه سبب للدخول ، أي بسبب طيبكم قيل لكم:ادخلوها - فإنها دار الطيبين لا يدخلها إلا طيب .
وقال في «حادي الأرواح »:
قال لأهل الجنة:{ حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} بالواو .
وقال في صفة النار:{ حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} [ الزمر:71] بغير واو .
فقالت طائفة:هذه واو الثمانية:دخلت في أبواب الجنة لكونها ثمانية ، وأبواب النار سبعة ، فلم تدخلها الواو . وهذا قول ضعيف لا دليل عليه ، ولا تعرفه العرب ، ولا أئمة العربية . وإنما هو من استنباط بعض المتأخرين .
وقالت طائفة أخرى:الواو زائدة:والجواب الفعل الذي بعدها ، كما هو في الآية الثانية . وهذا أيضا ضعيف . فإن زيادة الواو غير معروف في كلامهم ، ولا يليق بأفصح الكلام أن يكون فيه حرف زائد لغير معنى ولا فائدة .
وقالت طائفة ثالثة:الجواب محذوف .
وقوله:{ فتحت أبوابها} عطف على قوله:{ جاءوها} وهذا اختيار أبي عبيدة والمبرد والزجاج وغيرهم .
قال المبرد:وحذف الجواب أبلغ عند أهل العلم .
قال أبو الفتح بن جني:وأصحابنا يدفعون زيادة الواو ، ولا يجيزونه ، ويرون أن الجواب محذوف للعلم به .
بقي أن يقال:فما السر في حذف الجواب في آية أهل الجنة ، وذكره في آية أهل النار ؟
فيقال:هذا ابلغ في الموضعين . فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها ، وأبوابها مغلقة ، حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم ، فيفجؤهم العذاب بغتة فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة . فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط:أن يكون عقيبه . والنار دار الإهانة والخزي ، فلم يستأذن لهم في دخولها ، ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من الدخول .
وأما الجنة فإنها دار الله ، ودار كرامته ، ومحل خواصه وأوليائه ، فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة ، فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله ، وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم . فيقول صلى الله عليه وسلم:«أنا لها » فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجدا لربه فيدعه ما شاء الله أن يدعه ، ثم يأذن له في رفع رأسه ، وان يسأله حاجته ، فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها ، فيشفعه ، ويفتحها تعظيما لخاطره ، وإظهارا لمنزلة رسوله صلى الله عليه وسلم وكرامته عليه ، وأن مثل هذه الدار هي دار ملك الملوك ورب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة ، التي أولها من حين عَقَل العبد في هذه الدار إلى أن انتهى إليها ، وما ركبه من الأطباق طبقا بعد طبق وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة ، حتى أذن الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله ، وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم . وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر بخلاف ذلك ، لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء . فجنة الله عالية غالية ، وبين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار مالا تنال إلا به . فما لمن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار ؟ فليعد
عنها إلى ما هو أولى به . وقد خلق له وهيئ له .
وتأمل ما في سوق الفريقين إلى الدارين زمرا:من فرحة هؤلاء بإخوانهم وسيرهم معهم ، كل زمرة على حده ، كمشتركين في عمل متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم ، مستبشرين أقوياء القلوب ، كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير كذلك يؤنس بعضهم بعضا ، ويفرح بعضهم ببعض . وكذلك أصحاب الدار الأخرى:يساقون إليها زمرا يلعن بعضهم بعضا ، ويتأذى بعضهم ببعض . وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة والهتيكة . من أن يساقوا واحدا واحدا .
فلا تهمل تدبر قوله:{ زمرا} وقول خزنة أهل الجنة لأهلها{ سلام عليكم} فبدؤوهم بالسلام المتضمن للسلامة من كل شر ومكروه ، أي سلمتم فلا يلحقكم بعد اليوم ما تكرهون ، ثم قالوا لهم:{ طبتم فادخلوها خالدين} أي سلامتكم ودخولكم الجنة بطيبكم ،
فإن الله حرمها إلا على الطيبين ، فبشروهم بالسلامة والطيب ، والدخول والخلود .
وأما أهل النار فإنهم لما انتهوا إليها على تلك الحال من الهم والغم والحزن ، وفتحت لهم أبوابها فوقفوا عليها ، وزيدوا على ما هم عليه:توبيخ خزنتها وتبكيتهم لهم بقولهم:{ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا} [ الزمر:71] فاعترفوا وقالوا{ بلى} فبشروهم بدخول النار والخلود فيها ، وأنها بئس المثوى والمآب لهم .
وتأمل قول خزنة الجنة لأهلها{ بلى} وقول خزنة النار لأهلها{ ادخلوا أبواب جهنم} تجد تحته سرا لطيفا ، ومعنى بديعا ، لا يخفى على المتأمل . وهو أنها لما كانت النار دار العقوبة وأبوابها أفظع شيء وأشده حرا ، وأعظمه غما ، يستقبل الداخل فيها من العذاب ما هو أشد منها ، ويدنوا من الغم والخزي والحزن والكرب بدخول الأبواب . فقيل:{ ادخلوا أبواب جهنم} صغارا لهم ، وإذلالا وخزيا . ثم قيل لهم:لا يقتصر بكم العذاب على مجرد دخول الأبواب الفظيعة ، ولكن وراءها الخلود في النار .
وأما الجنة:فهي دار الكرامة ، والمنزل الذي أعده الله لأوليائه ، فبشروا من أول وهلة بالدخول إلى الأرائك والمنازل والخلود فيها .