تأمل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال ، والنعمة التي أسبغها عليهم بالتمام إيذانا في الدين بأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل ، ولا شيء خارجا عن الحكمة بوجه ، بل هو الكامل في حسنه وجلالته ووصف النعمة بالتمام إيذانا بدوامها واتصالها ، وأنه لا يسلبهم إياها ، بعد إذ أعطاهموها بل يتمها لهم بالدوام في هذه الدار وفي دار القرار .
وتأمل حسن اقتران التمام بالنعمة وحسن اقتران الكمال بالدين ، وإضافة الدين إليهم إذ هم القائمون به المقيمون له ، وأضاف النعمة إليه إذ هو وليها ومسديها والمنعم بها عليهم ، فهي نعمته حقا ، وهم قابلوها .
وأتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص ، وأنه شيء خصوا به دون الأمم وفي إتمام النعمة ب «على » المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والإحاطة فجاء ب{ أتممت} في مقابلة{ أكملت} و{ عليكم} في مقابلة{ لكم} و{ نعمتي} في مقابلة{ دينكم} وأكد ذلك وزاده تقريرا وكمالا وإتماما للنعمة بقوله:{ ورضيت لكم الإسلام دينا} .
وأما عدم مشيئته سبحانه وإرادته ، فكما قال تعالى:{ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} [ المائدة:41] وقال:{ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} [ السجدة:13]{ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} [ يونس:99] وعدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده ، كما أن مشيئته تستلزم وجوده ، فما شاء الله وجب وجوده ، وما لم يشأ امتنع وجوده ، وقد أخبر سبحانه أن العباد لا يشاءون إلا بعد مشيئته ، ولا يفعلون شيئا إلا بعد مشيئته فقال:{ وما تشاءون إلا أن يشاء الله} [ الإنسان:30 . – التكوير:29] وقال:{ وما يذكرون إلا أن يشاء الله} [ المدثر:56] .
فإن قيل:فهل يكون الفعل مقدورا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله ؟
قيل:إن أريد بكونه مقدورا:سلامة آله البد التي يتمكن بها من الفعل ، وصحة أعضائه ، ووجود قواه ، وتمكينه من أسباب الفعل ، وتهيئة طريق فعله وفتح الطريق له ، فنعم ، هو مقدور بهذا الاعتبار ، وإن أريد بكونه مقدورا:القدرة المقارنة للفعل ، وهي الموجبة له التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل ، فليس بمقدور بهذا الاعتبار .
[ أنواع القدرة]
وتقرير ذلك:أن القدرة نوعان:
قدرة مصححة وهي:قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآلة ، وهي مناط التكليف . وهذه متقدمة على الفعل غير موجبة له .
وقدرة مقارنة للفعل ، مستلزمة له ، لا يتخلف الفعل عنها . وهذه ليست شرطا في التكليف ، فلا يتوقف صحته وحسنه عليها ، فإيمان من لم يشأ الله إيمانه ، وطاعة من لم يشأ طاعته:مقدور بالاعتبار الأول ، غير مقدور بالاعتبار الثاني .
وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يطاق ، كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى .
فإذا قيل:هل خلق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان ، أم لم يخلق له قدرة ؟
قيل:خلق له قدرة مصححة متقدمة على الفعل ، هي مناط الأمر والنهي .
ولم يخلق له قدرة موجبة للفعل مستلزمة له ، لا يتخلف عنها . فهذه فضله يؤتيه من يشاء ، وتلك عدله التي تقوم بها حجته على عبده .
فإن قيل:فهل يمكنه الفعل ولم يخلق له هذه القدرة ؟
قيل:هذا هو السؤال السابق بعينة . وقد عرفت جوابه:وبالله التوفيق .
النعمة نعمتان:( نعمة مطلقة ، ونعمة مقيدة ):
فالنعمة المطلقة:هي المتصلة بسعادة الأبد ، وهي نعمة الإسلام والسنة ، وهي التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط أهلها ، ومن خصهم بها ، وجعلهم أهل الرفيق الأعلى ، حيث يقول تعالى:{ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [ النساء:29] فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة ، وأصحابها أيضا هم المعنيون بقول الله تعالى:{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} فأضاف الدين إليهم ، إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم .
و«الدين » تارة يضاف إلى العبد ، وتارة يضاف إلى الرب ، فيقال:الإسلام دين الله الذي لا يقبل من أحد دينا سواه ، ولهذا يقال في الدعاء:«اللهم انصر دينك الذي أنزلت من السماء » .
ونسب الكمال إلى الدين ، والتمام إلى النعمة ، مع إضافتها إليه ؛ لأنه هو وليها ومسديها إليهم . وهم محل محض النعمة قابلين لها ، ولهذا يقال في الدعاء ، المأثور للمسلمين:«واجعلهم مثنين بها عليك ، قابليها ، وأتممها عليهم » .
وأما «الدين » فلما كانوا هم القائمين به ، الفاعلين له بتوفيق ربهم نسبه إليهم ، فقال:{ أكملت لكم دينكم} وكان الإكمال في جانب الدين والإتمام في جانب النعمة .
واللفظتان - وإن تقاربتا وتواخيتا - فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل .
فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني ، ويطلق على الأعيان والذوات ، ولكن باعتبار صفاتها وخواصها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد » .
وقال عمر بن عبد العزيز:«إن للإيمان حدودا وفرائض ، وسننا وشرائع ، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان » .
وأما «التمام » فيكون في الأعيان والمعاني ، ونعمة الله أعيان وأوصاف ومعان .
وأما «دينه » فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه ، فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن ، كما كانت إضافة الدين إليهم والنعمة إليه أحسن .
والمقصود:أن هذه النعمة هي النعمة المطلقة ، وهي التي اختصت بالمؤمنين . وإذا قيل:ليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح .
والنعمة الثانية:النعمة المقيدة:كنعمة الصحة والغنى وعافية الجسد وتبسط الجاه ، وكثرة الولد والزوجة الحسنة ، وأمثال هذه . فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر ، والمؤمن والكافر .
وإذا قيل:لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار ، فهو حق .
فلا يصح إطلاق السلب والإيجاب إلا على وجه واحد ، وهو أن النعمة المقيدة لما كانت استدراجا للكافر ، ومآلها إلى العذاب والشقاء ، فكأنها لم تكن نعمة ، وإنما كانت بلية ، كما سماها الله تعالى في كتابه كذلك . فقال تعالى:{ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا} [ الفجر:15 . 17] أي:ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها فقد أنعمت عليه ، وإنما كان ذلك ابتلاء مني له واختبارا ، ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر حاجته من غير فضلة ، أكون قد أهنته ، بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب .
فإن قيل:كيف يلتئم هذا المعنى ويتفق مع قوله:{ فأكرمه} فأثبت له الإكرام ، ثم أنكر عليه قوله{ ربي أكرمن} وقال:{ كلا} أي ليس ذلك إكراما مني [ وإنما] هو ابتلاء ، فكأنه أثبت له الإكرام ونفاه .
قيل:الإكرام المثبت غير الإكرام المنفي ، وهما من جنس النعمة المطلقة والمقيدة ، فليس هذا الإكرام المقيد بموجب لصاحبه أن يكون من أهل الإكرام المطلق .
وكذلك أيضا إذا قيل:إن الله أنعم على الكافر نعمة مطلقة ، ولكنه رد نعمة الله وبدلها ، فهو بمنزلة من أعطى ما لا ليعيش به فرماه في البحر ، كما قال:{ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} [ إبراهيم:28] وقال تعالى:{ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [ فصلت:17] . فهدايته إياهم نعمة منه عليهم ، فبدلوا نعمة الله ، وآثروا عليها الضلال .
فهذا فصل النزاع في مسألة:هل لله على الكافر نعمة أم لا ؟
وأكثر اختلاف الناس من جهتين:
إحداهما:اشتراك الألفاظ وإجمالها .
والثانية:من جهة الإطلاق والتفصيل .