مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديبسنده عن أبي رافع قال: «أمرني رسول الله( ص ) بقتل الكلاب ،فقال النّاس: يا رسول الله ما أحلّ لنا من هذه الأمة الّتي أمرت بقتلها ،فأنزل الله تعالى هذه الآية وهي:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} .وذكر المفسرون شرح هذه القصة ،فقالوا: قال أبو رافع: جاء جبريل( ع ) إلى النبي( ص ) واستأذن عليه فأذن له فلم يدخل ،فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) فقال: قد أذِنّا لك يا رسول الله ،فقال: أجل يا رسول الله ،ولكنّا لا ندخل بيتاً فيه صورة ،ولا كلب ،فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو .قال أبو رافع: فأمرني أن لا أدع كلباً بالمدينة إلاَّ قتلته حتّى بلغت العوالي ،فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته ،فأتيت النبي( ص ) فأخبرته ،فأمرني بقتله ،فرجعت إلى الكلب فقتلته ،فلما أمر رسول الله{بقتل الكلاب ،جاء ناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة الّتي تقتلها ؟فسكت رسول الله( ص ) ،فأنزل الله تعالى هذه الآية ،فلما نزلت أذن رسول الله( ص ) في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها ،وأمر بقتل الكلب الكَلِب والعقور وما يضر ويؤذي ودفع القتل عما سواهما وما لا ضرر فيه » .
ونلاحظ على هذه الرِّواية الارتباك في المضمون ،فإنَّ القضية المطروحة هي أنَّ جبريل لم يدخل بيت رسول الله لأنَّه لا يدخل بيتاً فيه صورة أو كلب ،ولم تتحدث الرِّواية عن وجود كلبٍ في داره ،بل تحدثت عن وجود جروٍ في بعض بيوتهم أي بيوت المسلمين ،مما لا علاقة له بعدم دخول جبريل إلى بيت النبي محمَّد( ص ) .
ثُمَّ ما المناسبة بين عدم دخول جبريل إلى البيت وقتل كل كلاب المدينة من دون تفريق بين كلب الهراش وكلب الصيد وكلب الحراسة ؟وهل أنَّ وجود الكلاب من حيث المبدأ مرفوض عند الله بحيث كان وجودها مفسدة يقتضي الأمر بقتلها جميعاً ؟إذاً لماذا خلقها الله إذا كانت الشرّ كله ؟ثُمَّ إنَّ الرِّواية لم تذكر أنَّ الله قد أوحى إليه بذلك مما قد يستفيد منه البعض بأنَّه رد فعل لعدم دخول جبريل عليه كما لو كانت القضيّة انتقاماً منها ،وذلك لا يتناسب مع روحيّة النبي وإنسانيته ورفقه بالحيوان ،لا سيّما إذا لاحظنا صدور الأمر بقتل الكلب الحارس لتلك المرأة الضعيفة الّتي تقول الرِّواية إنَّ أبا رافع رحمها ولم يرحمها النبي محمَّد( ص ) .
وهناك ملاحظة في نهاية الرِّواية ،فإنَّ المسلمين لما ضجوا من قتل الكلاب ،سألوه ماذا أحلّ لهم من الكلاب ،فلم يجبهم النبي( ص ) انتظاراً لأمر ربِّه ،في الوقت الَّذي كانت مبادرته بقتلهاحسب الرِّوايةبدون انتظار لأمره حتّى نزلت الآية .ولو دققنا في سياق الآية في مفرداتها الّتي تدل على أنَّ السؤال عن تحديد ما أحلّ لهم بشكل مطلقمن كل شيء يتصل بحياتهم لا من الكلابلوجدنا عدم تناسب بين القضيّة وهذا السياق ،ما يجعلنا نستقرب كون القصة موضوعةً جملةً وتفصيلاً ،لأنَّها لا تتناسب مع المقام القدسي للنبي محمّد( ص ) في روحه وإنسانيته وعدم انفعاله بأية حالةٍ نفسيّة أو ردّ فعلٍ ذاتي ،بل إنَّ انطلاقه من أمر الله:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [ النجم:34] .
وروي عن سعيد بن جبير أنَّها نزلت في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين ..فقالا: «يا رسول الله ،إنّا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ،فإنَّ كلاب آل درع وآل حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب ،فمنه ما يدرك ذكاته ومنه ما يقتل فلا يدرك ذكاته وقد حرّم الله الميتة ،فماذا يحل لنا منها ؟فنزلت:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} يعني الذبائح{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ} يعني وصيد ما علمتم من الجوارح ،وهي الكواسب من الكلاب وسباع الطير »
وبعد الحديث عن المحرّمات ،جاءت الآية الثانية لتتحدث عمّا أحلَّ الله للمؤمنين ،وذلك من خلال سؤال تقدموا به للنبيّ( ص ) ،لينطلقوا على أساس قاعدة شرعيّة واضحة ،فسألوه: ماذا أُحلَّ لهم ؟وكان الجواب عاماً لا تحديد فيه للتفاصيل بل للمبدأ ،فالله قد أحل للإنسان كلّ طيّب:{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} لأنَّ التحريم لم ينطلق كعقوبة للإنسان بل لمصلحته .أمَّا تحديد ما أحلّ لهم بالطيب ،فللإيحاء بطبيعة الخصائص الكامنة في كل ما أحلَّه الله للإنسان ،سواء كانت ظاهرةً يحسُّها بحواسه ،أم كانت باطنةً يدركها بالحسِّ الداخلي مما تشتمل عليه من منافع ،وقد يكون للإشارة إلى الجانب السلبي ،وهو عدم كونه من الخبائث الّتي يستقذرها الحسُّ والروح والفكر ،في الَّذي أشار إليه تحت عنوان الخبائث .
ثُمَّ تحدث عن بعض أنواع الصَّيد الَّذي كان يتوهّم فيه الحرمة ،وهو ما يصيده الكلب المعلّم الَّذي تلقى تدريباً كافياً للصَّيد ،بحيث لا يقبل على الحيوان بغريزته الجائعة ،بل بمهمته الصائدة ،وقد كان يخيّل للبعض أنَّه من أنواع الميتة المحرمة ،خاصّة عندما يصل صاحب الكلب إلى صيده وهو ميت ،فأنزل الله حليّته ،لأنَّ الكلب يعتبر أحد وسائل الصَّيد المتعارفة ،فيكون صيده ذكاته ،وهذا هو معنى قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} حالة كونهم مكلّبين ،أي أصحاب صيد بالكلاب .ويُحتمل أن يكون المراد بالكلمة ما جاء في تفسير الكشاف ،قال: «مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف ،واشتقاقه من الكلب ،لأنَّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب ،فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه ،أو لأنَّ السَّبع يسمى كلباً .ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:اللهم سلط عليه كلباً من كلابك » .{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} من علم التكليب ،لأنه إلهامٌ من الله ومكتسب بالعقل ،أو مما عرفكم أن تعلّموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره ،وانصرافه بدعائه وإمساك الصَّيد عليه وأن لا يأكل منهكما جاء في الكشاف.{فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ولم تدركوا ذكاته ،ولا تتوهموا حرمته .والإمساك على صاحبه: أن لا يأكل منه ،بمعنى أن لا يمسك الصَّيد انطلاقاً من غريزته المندفعة للافتراس لحاجاته الطبيعيّة كأي حيوان يبحث عن الفريسة ليأكلها ،بل يمسكه من خلال المهمّة الّتي أرسله صاحبه لتحقيقها لحسابه .
وقد جاء عن ابن عباس ،كما في الدر المنثور للسيوطي ،في المسلم يأخذ كلب المجوسي المعلم أو بازه أو صقره مما علمه المجوسي فيرسله فيأخذه قال: لا تأكله ،وإن سميت ،لأنَّه من تعليم المجوسي ،وإنَّما قال:{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} .ما يوحي بأنَّه استفاد من الآية اختصاص الحل بتعليم المؤمنين ،ولكن الظاهر أنَّ الخصوصيّة للتعليم الَّذي ألهمه الله لعباده ،لا لخصوصيّة المعلِّم من حيث كونه مؤمناً أو لا .{وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} قبل أن ترسلوه إليه ،فإنَّ الله أراد للإنسان أن ينطلق في قتل الحيوان باسمه ،لأنَّه خالقه ،فليس له أن يقتله إلاَّ على أساس وحيه ورخصته به ،ليكون ذلك وسيلةً للخروج من الحالة الذاتيّة الغريزيّة العدوانيّة إلى الحالة الروحيّة المتحركة في دائرة أمر الله ونهيه ،بحيث يعيش الإنسان معنى العبوديّة لله في علاقته بالحيوان في حاجاته للتغذي به .والله العالم .
{وَاتَّقُواْ اللَّهَ} في ذلك كلّه ،وذلك بالوقوف عند حدوده تعالى في نوع الحيوان الَّذي يحل أكله ،وفي شروط الصَّيد ،فلا تبتعدوا عن شريعته في ذلك ،فإنَّ للأكل تقواه في الحلال والحرام منه ،كما لكل شيء تقواه في أعمال الإنسان العامة ،ولا بُدَّ للإنسان من أن يحرّك التقوى في كل تفاصيل حياته ليكون في خط العبوديّة في حياته كلها .{إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} في ما يُحصيه من أعمال عباده ويُحاسبهم عليها لموافقتها أو مخالفتها لأوامره ونواهيه .
هذا وقد اختلف الفقهاء في اختصاص حلّيّة الصَّيد بالكلب المعلَّم أو شموله لكل حيوان معلَّم ،سواء كان صقراً أو فهداً أو كلباً أو غيرها ..فأخذ بعضهم بعموم الجوارح واعتبر كلمة{مُكَلِّبِينَ} واردةً على سبيل التشبيه ،لأنَّ الغالب في الحيوان الصائد أن يكون كلباً ،وبعضهم اعتبر هذه الكلمة قيداً ،فقال بالخصوص ،وهذا ما روي عن أئمة أهل البيت( ع ) ،فقد جاء في تفسير عليّ بن إبراهيم بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله( ع ) ،قال: «سألته عن صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب ،فقال: لا تأكل إلاَّ ما ذكيت ،إلاَّ الكلاب ،فقلت: فإن قتلته ؟قال: كل ،فإنَّ الله يقول:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} ثُمَّ قال( ع ): كل شيء من السِّباع تمسك الصَّيد على نفسها إلاَّ الكلاب المعلَّمة فإنَّها تمسك على صاحبها ،وقال: إذا أرسلت الكلب المعلَّم فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته ،وهو أن تقول: باسم الله والله أكبر » .
ويظهر من هذه الرِّواية أنَّ الاختصاص بالكلب ينطلق من عدم توفر الشرط وهو الإمساك بالصَّيد على صاحبه لا على نفسه من حيث حاجته إلى الطعام ،فإنَّ الحيوانات الأخرى تملك طبيعة مفترسة تجعلها تتجه إلى الصَّيد من خلال شخصيّة الحيوان المفترس الباحث عن الطعام ،فيكون إمساكها بالصّيد حالةً ذاتيةً لا حالة آلية كصائدةٍ لحساب صاحبها الَّذي أرسلها ،أمّا الكلب ،فإنَّه ليس حيواناً مفترساً بطبيعته ،ما يجعل من تعليمه أمراً يدفع به إلى الصيَّد كآلةٍ للاصطياد لحساب صاحبه ،وربَّما يكون جائعاً فيأكل من الحيوان من خلال الحاجة الطارئة لا من خلال الغريزة الطبيعيّة كما هو الحال في الحيوانات الأخرى .
وعلى ضوء ذلك ،لا يكون التركيز في الاختصاصحسب هذه الرِّواية ومثيلاتهاعلى كلمة{مُكَلِّبِينَ} بل على كلمة{مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} من حيث طبيعة الأمور في الكلب وغيره .
وهناك رواياتٌ أخرى معارضةٌ لهذه الرِّواية وغيرها في الاختصاص بالكلب ،ما جعل بعض فقهاء أهل البيت يذهب إلى الرأي القائل بالشمول لكلِّ الحيوانات المعلَّمة .والله العالم .
التقنين بين الدين والمبادىء الوضعية
ربَّما كان من خصوصيات الأديان ومن بينها الإسلام بالنسبة إلى المبادىء الوضعية ،هذا الشمول في التشريع ،بحيث يتدخل في كل خصوصيات الإنسان ،فيحدد له تكاليفه حتّى في مأكولاته ومشروباته وملبوساته وزواجه ..فلم يجعل له الحريّة في ممارسة ذلك كله إلاَّ في نطاق ما أحلّ الله ،فإذا تجاوز بعض ذلك ،كان عاصياً مستحقاً للعقوبة في الآخرة وفي الدنيا في بعض الحالات .وربَّما كان الفرق بين فكرة التقنين في المبادىء الوضعيّة أو المبادىء الشرعيّة ،هي أنَّ القانون الوضعي ينطلقغالباًمن دراسة الإنسان من حيث هو كائنٌ اجتماعي ،يتبادل المسؤوليّة بينه وبين المجتمع ،فهو من جهة مسؤولٌ عن المجتمع ،ومن جهةٍ أخرى المجتمع مسؤول عنه ،ولا دخل له في حياته الخاصة إلاَّ بقدر ارتباطها بسلامة المجتمع .من هنا ،فإنَّ أي تشريع يتناول الفرد كفرد يعتبر اعتداءً على الحريّة الشخصيّة .أمّا الإسلام ،فإنَّه ينطلق من فكرة أنَّ الإنسان مخلوقٌ لله وعبدٌ له ،فليس له الحريّة في أن يعمل أي عمل ،أو يتحرك في أي مشروع إلاَّ من خلال الرخصة الّتي يتلقاها من الله .وبذلك كان اللهمن خلال شريعتههو الَّذي ينظم له حياته الشخصية والاجتماعية ،فيحدد له كل ما يتصرف فيه من شؤونه الخاصة والعامة ،ولم يمنحه الحريّة في الإضرار بحياته ،سواء من ناحية الأكل والشرب ،أو غيرهما ،لأنَّه لا يملك نفسه ،بل هو ملك الله ،فليس له أن يتصرف في ملكِ الله إلاَّ بإذن منه ،وهكذا يتدخل التشريع في حياة الإنسان الخاصة ،ليضغط على حريّته في نطاق مصلحته الحقيقية .
طاعة الله يجب أن تكون عمياء
وعلى ضوء هذا ،نلتقي بهاتين الآيتين في نطاق التحليل والتحريم ،فقد حرّم الله على النّاس الميتة ،وهي ما مات حتف أنفه ،والمخنوقة ،والمتردية ،وبقايا الفريسة ،وما مات بسبب الانتطاح من حيوان آخر ،وحرّم إلى جانب ذلك ما ذبح على الأصنام تقرّباً لها ،وما ذكر عليه اسم غير الله ،والدم ولحم الخنزير .نحن لا نريد تبيان فلسفة هذا التشريع تفصيليّاً ،إنَّما نكتفي بالإشارة إلى أنَّ هناك أبحاثاً تتحدث عن الأضرار الّتي قد تصيب الإنسان في جسده من خلال أكل الميتة بجميع أنواعها ،كما أنَّ هناك أفكاراً تتحدث عن الأثر الروحي المترتب على أكل اللحوم ،ما يجعل للذبح معنى روحياً عبادياً ،لأنَّ الحيوان خلقه الله ،فليس لك أن تذبحه أو تأكله إلاَّ على أساس اسم الله ،الأمر الَّذي قد يعطي إحساسك نبضاً روحياً يوحي إليك بالطمأنينة والانفتاح على معنى العبودية لله في طعامك وشرابك ،فإذا ذبحته للأصنام أو ذكرت عليه اسم غير الله ،كنت بعيداً عن ذلك الجو كله ،وتحولت حياتك إلى حياة تعيش ماديّتها بعيداً عن الروح ،وهذا ما لا يريده الله لعباده ،لأنَّه يبتعد بهم عن الآفاق الروحيّة الّتي تشدهم إليه في ممارستهم لحياتهم العادية ،حيث يتحول الجانب الروحي لديهم إلى زاويةٍ ضيّقةٍ محدودةٍ من زوايا حياتهم ،لتبقى الساحات الأخرى مسرحاً للشيطان .
وهذا النوع من التفسيرات لا بأس به ،لأنَّ الله تعالى لم يمنعنا من محاولة فهم أسرار شريعته ،لكن شريطة أن يظل ذلك في نطاق التأمل الذاتي الّذي يحتفظ به الإنسان لنفسه ،كما يحتفظ بالكثير من الانطباعات والتأملات الشخصيّة من دون أن تترك تأثيراً على المسار العملي في ما يفعله أو يتركه .فإنَّ الإيمان يفرض على المؤمن من موقع إحساسه بالعبوديّة ،أن يُسلم أمره لله تعالى ،وأن يطيعه إطاعة عمياء في كل أوامره ونواهيه ،سواء عرف سر التشريع في موارد الطاعة والمعصية أو لم يعرفها ،فإنَّ ذلك لا دخل له بالموضوع ،وبالتالي يجب أن يكون شعار المؤمن دائماً: عليّ إطاعة الله من منطلقات الله ،لا سيما في ما لم أحط به علماً من مصالح وأسرار .
وأحلّ الله للإنسان ،في ما أحلّه من حيوانات ،الحيوان الَّذي يذكيه الإنسان ،وذلك وفق شروط فقهية تحدد كيفية التذكية ،وهذا ما أشار إليه في قوله تعالى:{إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}: أي إلاَّ ما أدركتم ذكاته فذكيتموه من هذه الأشياء ،وقد جاء عن الإمامين الباقر والصادق( ع ): «إن أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه » ،وخلاصته أن تكون به حياة بحسب العلامات الدالة عليه .
واختلف المفسرون في الاستثناء ،هل يرجع إلى ما تقدم ذكره من المحرمات غير ما لا يقبل الذكاة كالميتة والدم ولحم الخنزير ،أو يرجع إلى فقرة{وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ} والظاهر رجوعه إلى الجميع ،وقد روي ذلك عن علي( ع ) وابن عباس وقيلكما في مجمع البيان«هو استثناء من التحريم لا من المحرمات ،لأنَّ الميتة لا ذكاة لها ولا الخنزير ،فمعناه: حرمت عليكم سائر ما ذكر إلا ما ذكيتم مما أحلّه الله لكم بالتذكية فإنَّه حلال لكم ،عن مالك وجماعة من أهل المدينة واختاره الجبائي » .إلاَّ أنَّ هذا القول يُناقش ،حيث يُثار سؤال هنا حول السر في تعداد الأنواع التالية في قوله تعالى:{وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} مع دخولها في الميتة الّتي حرّمت في صدر الآية ،وإن اختلفت أسباب الموت من خنق ،أو تردٍّ ،أو نطح ،أو إهلال لغير الله به ،أو ما أكل السبع .
وأُجيب عنهكما في مجمع البيان«إنَّ الفائدة في ذلك أنَّهم كانوا لا يعدون الميتة إلاَّ ما مات حتف أنفه من دون شيء من هذه الأسباب ،فأعلمهم الله سبحانه أنَّ حكم الجميع واحد ،وأنَّ وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة فقط ،قال السدي: إنَّ ناساً من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك ولا يعدُّونه ميتاً ،إنَّما يعدُّون الميت الَّذي يموت من الوجع » .
وعلى ضوء ذلك ،فإنَّ الميتة في الآية لا تشمل إلاَّ ما مات حتف أنفه ،أمَّا الأنواع المذكورة الأخرى ،بالإضافة إلى ما ذبح بطريقة غير شرعيّة ،فلا يُستفاد حكمها من الميتة ،بل يُستفاد من التنصيص عليها وما يُستفاد من حصر الحل في التذكية .
ولذلك لا يمكن إلحاق الميتة مطلقاً بهذه العناوين من النجاسة أو حرمة البيع أو نحو ذلك ،مما جعل الميتة موضوعاً له ،إلاَّ بدليل خاص ،لأنَّ المفهوم القرآني اللغوي لا يشملها ،والله العالم .
هل ذبح الحيوان فعل غير إنساني ؟
وقد يُثار اعتراضٌ إنسانيٌ على مسألة تحليل ذبح الحيوانات وأكل لحمها بأنَّه نوعٌ من أنواع التعذيب الَّذي ينافي الرحمة ويُصادر حياة مخلوق حيّ ،الأمر الَّذي قد لا نرى فرقاً في قبحه الأخلاقي بينه وبين قتل الإنسان وأكل لحمه ،ولهذا ذهب البعض إلى تحريم أكل اللحوم بلحاظ استلزامه قتل الحيوان ،ورأوا في ذلك نوعاً من الوحشيّة الإنسانيّة الّتي لا تختلف في طبيعتها وفي شكلها عن وحشيّة السباع .
والجواب عن ذلك ،أنَّ مسألة الحياة لا تعالج بهذه الطريقة ،وأنَّ الرحمة ليست حالةً شعوريةً تنطلق من الإحساس الساذج .فالحياة هبة الله للمخلوق الحيّ ،وقد أراد لها الاستمرار وفق شروطٍ حيويّةٍ خاصةٍ قوامها الاعتماد المتبادل فيما بينها في عمليّة التغذي ،كما نلاحظ ذلك في عالم الحيوانغير النباتيالَّذي لا مجال لبقاء حياته واستمرار نظامه الوجودي إلاَّ بأن يأكل بعضه بعضاً بمختلف الوسائل المتنوّعة ،الأمر الَّذي يوحي بأنَّ نظام الخلق للحيوانات المختلفة في قوتها وضعفها في أصل وجودها قائمٌ على ذلك ،بحيث كانت سنَّة الكون منطلقة من المصلحة العميقة في حركة الحياة .
وليس الإنسان بدعاً من عالم الحيوان ،في نظام التغذية ،في حاجته الوجوديّة إلى أكل الحيوانفي نطاق خاصفإنَّ استمرار حياتهفي عناصرها القويةيتوقف على ذلك .
وفي ضوء ذلك ،نجد أنَّ مسألة مصادرة الحياة ليست شراً مطلقاً في ذاتها ،بل هي ضرورةٌ لاستمرار حياةٍ أخرى يخضع لها النظام الكوني ،بحيث لولا ذلك لانهارت الحياة نفسها وفقدت القدرة على الاستمرار ،ما يجعلها داخلةً في عمق تنظيم الحياة نفسها تنوعاً وتكاملاً وترابطاً متبادلاً .
وهكذا نلتقي بمسألة التعذيب الحاصل من الذبح ،فإنَّه تماماً كالتعذيب الحاصل من الافتراس في تغذية الحيوان من الحيوان ،ولا بُدَّ من تجاوز قبحه بالتركيز على أنَّ الله جعله من شؤون الفطرة في أصل الخلق مما تتقدم فيه المصلحة في جانبها الإيجابي على المفسدة في جانبها السلبي .وبذلك نعرف أنَّ الرحمة أمرٌ نسبيٌّ إذا ما قيست إلى المصلحة المتوخاة ،بالإضافة إلى الجانب الشعوري ،فقد يكون الشيء رحمةً من جانب علاقته بالنظام العام وإن لم يكن كذلك في الجانب الذاتي للشخص ،وهذا أمرٌ طبيعي في كل القضايا المتصلة بالأمور الحيويّة في علاقة الإنسان بمسؤولياته تجاه الإنسان الآخر ،وفي نظام العقوبات الّتي يتوقف عليها نظام الحياة .
الاستقسام بالأزلام ..والقمار
وجاء الحديث في الآية الأولى عن الاستقسام بالأزلام ،ومعناهكما يقول صاحب مجمع البيان«طلب قسم الأرزاق بالقداح الّتي كانوا يتفاءلون بها » ،كما عن جماعة من المفسرين .وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين( ع ): «أنَّ الأزلام عشرة: سبعة لها أنصباء ،وثلاثة لا أنصباء لها ،فالّتي لها أنصباء: الفذ والتوأم والمسبل والنافس والحلس والرقيب والمعلّى ،فالفذ له سهم ،والتوأم سهمان ،والمسبل له ثلاثة أسهم ،والنافس له أربعة أسهم ،والحلس له خمسة أسهم ،والرقيب له ستة أسهم ،والمعلى له سبعة أسهم ،والّتي لا أنصباء لها: السفيح والمنيح والوغد ،وكانوا يعمدون إلى الجزور ،فيجزِّئونه أجزاءً ،ثُمَّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل ،وثمن الجزور على من تخرج له الّتي لا أنصباء لها ،وهو القمار ،فحرّمه الله تعالى ...» واعتبره فسقاً وانحرافاً عن خط إرادته .وفي ضوء هذا التفسير ،يأخذ الاستقسام بالأزلام معنى القمار ،ما يجعل من تحريم القمار تحريماً له ،ويبتعد عن معنى التفاؤل بالقداح في ما يريد الإنسان أن يفعله وما لا يريد أن يفعله .
وقد نلاحظفي هذا المجالأنَّ تحريم مثل هذا التفاؤل لا يحمل الكثير من المعنى المتصل بحياة الإنسان ،وقد حاول البعض أن يرجع سر هذا التحريم إلى إبعاد الإنسان عن أسلوب المحاولة للتعرُّف على الغيب ،مما قد يقوده إلى الخرافة ،وإلى الابتعاد عن تلمّس الوسائل الطبيعية للمعرفة ،ولكنَّ ذلك لا يغيّر من الواقع شيئاً ،لأنَّ النّاس قد يلجأون إليه في وقت الحيرة عندما تغلق عنهم كل أبواب المعرفة ،فتكون مثل هذه الطريقة أشبه بعملية الاختيار العشوائي الّتي يمارسها كل متحير يجد نفسه ملزماً بذلك على أيّ حال .على أنَّ قضيّة استعمال القداح للتفاؤل لا تتناسب مع كلمة الاستقسام الّتي توحي بأنَّ هناك فرزاً واقعياً للاستحقاقات ،ما يبعد المعنى المذكور عن أن يكون تفسيراً للكلمة .
هل الاستخارة من قبيل الاستقسام بالأزلام ؟
واعتبر بعض المفسرين الاستخارة في أشكالها المتعددة ،كالاستخارة بالسبحة أو بالرقاع ،من قبيل الاستقسام بالأزلام ،وعليه تكون مرفوضة بنص القرآن الكريم ،ولكننا نسجل عليه:
أولاً: الملاحظة السابقة ،في أنَّ التفسير بما ذكر لا يتناسب مع طبيعة الكلمة .
وثانياً: أنَّ الاستخارةفي طبيعتها ومدلولهاتمثل نوعاً من الرجوع إلى الله والابتهال إليه في تحديد الخيرة للإنسان الحائر في ما تحير فيه ،عندما تُسَدُّ عليه أبواب المذاهب ،وتغلق عنه سبل المعرفة ،فهي من القضايا الّتي تدخل في الأساليب الإيمانية ،في معرفة الخيرة ،بعد استنفاد كل وسائل الفكر والمشورة ،وبقاء الموضوع على حاله من الغموض والإبهام .فما المانع من أن يستجيب الله لعباده ابتهالاتهم وينقذهم من حيرتهم ؟!
الاستخارة ليست طريقاً لشل الفكر
لا نريد من خلال هذا التفسير أن نبرِّر للإنسان الانطلاق بعيداً في هذا الأسلوب من ناحية ذاتية ،ليستحدث النّاس لأنفسهمباسم الإيمانوسائل معرفة المستقبل .فنحن لا نشجع ذلككمبدألأنَّه يؤدي بنا إلى الفوضى من جهة ،وإلى الوقوع في قبضة الخرافة والدجل من جهة أخرى .ولكنَّنا نقول: إنَّ النصوص الدينية المعتمدة إذا أقرّت مثل هذا الأسلوب ،فلا يكون ذلك بعيداً عن خط الإيمان والإسلام ،ولا يؤدي إلى إغلاق باب الفكر والمشورة ،لتكون الاستخارة بديلاً عنهما ،بل يكون له مبرراته الإيمانية في حدوده المعقولة .
وفي ضوء ذلك ،نثير الملاحظات على سلوك بعض النّاس الذَّين اتخذوا الاستخارة خطاً عملياً في أسلوب العمل والحركة ،فلم يسمحوا لأنفسهم بالتفكير أو بالاستشارة ،بل اكتفوا بالمسبحة يستنطقونها وجه الخير لما يصنعون ،أو بالرقاع ،يتعرفون من كلماتها سر الحقيقة في ما يمارسون .وهكذا حكموا على أفكارهم بالشلل ،فإذا دعوت أحدهم إلى أمر بسيط لا يحتاج إلاَّ إلى بعض الحسابات البسيطة المحيطة بالموضوع ،بادرك بالاستخارة ليقطع عليك أمر مناقشة القضية من جوانبها الواقعية ،وإذا عرضت لأحدهم حاجة في ما يتعلق بشؤون حياته ،أو شؤون من يتصل به ،في قضية زواج أو تجارة أو غيرهما ،كانت الاستخارة هي الأساس في اتخاذ القرار ،وليس الفكر الَّذي يلقي الضوء على طبيعة الموضوع ،ما قد يترك كثيراً من الآثار السلبية على حياته وحياة الآخرين .
إنَّنا نعتقد أنَّ الله قد أعطى الإنسان وسائل المعرفة في ذاته ليستعملها ،ودعاه إلى الاستعانة بالطاقات الّتي يملكها الآخرون ليستفيد منها ،فإذا ترك هذه وتلك وأقبل على الاستخارة ،كان متنكراً لما وجّهه الله إليه من خلال إرادته ،ولذلك لن يستقبل الله حيرته بالعناية ،لأنّهتعالىيستجيب لنداء الحيرة التي لا تملك معرفة السبيل إلى النور ،ولا يستجيب للحيرة الّتي تجلس بعيداً عن الحركة الإِرادية الواعية ،لتنتظر الحل من السماء ،في الوقت الَّذي تملك فيه كل الوسائل القريبة إلى الحل ،وهذا ما يجب أن يثيره المؤمن في نفسه وفي حياته ليستقيم له القصد ،ولتنفتح له آفاق النور بالمعرفة الواسعة .
اليوم يئس الَّذين كفروا
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} كان الكافرون يطمعون في إضلال المؤمنين في عقيدتهم وعملهم ،وهم يتحينون الفرص للوصول إلى هدفهم ،فقد يلوّحون بالرغبة تارة ،وقد يثيرون الرهبة في أجواء الرعب أخرى ..وتقدمت المسيرة في اتجاه الثبات والصمود ،ودارت هناك معارك كثيرة ،وعاش المسلمون الصراع كأقسى ما يكون ،وانتقل الإسلام من دور الفكر العقيدي إلى دور الخط التشريعي الَّذي يدخل مع المسلمين في حياتهم الخاصة والعامة ،فيعمق لهم الإحساس بالانتماء والالتزام بالله ورسوله ،ويثير في أنفسهم الشعور بالقوّة من خلال التخطيط للكيان المتكامل الَّذي لا تجد فيه أيّة ثغرة في فكر أو شريعة ،ويحدّد لهم الفواصل الّتي تفصلهم عن الكافرين في فكرهم وعاداتهم وتقاليدهم حتّى في ما يتعلّق بأكلهم وشربهم ولبسهم وممارستهم لأساليب الحياة ...
وبدأ الكفَّار يشعرون باليأس ،فمحاولاتهم المتكررة قد تحطمت على صخرة الواقع الإسلامي الجديد الَّذي يلتقي بالصمود والثبات ،وجاء القرآن ليبشر المؤمنين بتراجع الكافرين عن خططهم تحت وطأة الشعور باليأس ،وليدعوهم إلى عدم الخوف منهم في المستقبل ،وليعملوا على تعميق خوف الله في نفوسهم ،لأنَّ الخوف من الله هو الَّذي ركّز أقدامهم على الطريق وقادهم إلى الفتح والنصر ،وهو الَّذي يدفعهم من جديد إلى انتصارات جديدة ،وفتوحات جديدة .
إكمال الدين ..بولاية عليّ ( ع )
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} هذا الدين الَّذي تكامل من خلال نزوله منجّماً على النبي( ص ) حاملاً مع كل آية من آياته المفاهيم العامة للكون والإنسان والحياة .وكان التشريع يخطو خطواته الثابتة راصداً الواقع ومراقباً حاجاته ليأتي في حجم المشكلة ،وكان الله رفيقاً بعباده ،فلم ينزل عليهم القرآن جملة واحدة ،ولم يبعث الأحكام لهم دفعة واحدة ،بل كان التدرج هو الخط الَّذي خطّه الإسلام للإنسان ليصل به إلى التكامل ،حتّى كانت نهاية المطاف وأكمل الله للمسلمين دينهم ،وأتمّ عليهم نعمته به ،فهو النعمة الّتي لا نعمة مثلها ،لأنَّها السبيل إلى النجاة في الدنيا والآخرة ..فرضي لهم الإسلام ديناً .
ولنا أن نتساءل عمّا أنزله الله على رسوله فكمل به الدين ،ورضيه للمسلمين ديناً ،وتمت به النعمة ؟لقد اختلف المفسرون في ذلك ،فمنهم من قال: إنَّه فرائض الله وحدوده وحلاله وحرامه ،الّتي أكملها الله للمسلمين في ذلك الوقت بتنزيل آخر حكم شرعي ،ومنهم من قال: إنَّه إكمال الحج وتخصيصهم بالبلد الحرام ،بعد أن كان مشتركاً بينهم وبين المشركين ،ومنهم من قال: إنَّه إكمال الدين بإكمال قوته وسلطته وكفايته الأعداء ..والمروي عن الإمام الصادق( ع ) أنَّه قال: «آخر فريضة أنزلها الله تعالى الولاية ،ثُمَّ لم ينزل بعدها فريضة ،ثُمَّ نزل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بكراع الغميم ،فأقامها رسول الله بالجحفة ،فلم ينزل بعدها فريضة » .
وروى صاحب «مجمع البيان » عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ،كما نقلها الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب «نزول القرآن » «أنَّ النبي( ص ) أعطى في غدير خم علياً منصب الولاية ،وأنَّ النّاس في ذلك اليوم لم يكادوا ليتفرقّوا حتّى نزلت آية:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ،فقال له النبي( ص ) في تلك اللحظة: الله أكبر على إكمال الدين ،وإتمام النعمة ،ورضى الرب برسالتي ،وولاية عليّ بن أبي طالب من بعدي ،وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه ،اللهم والِ من والاه ،وعادِ من عاداه ،وانصر من نصره ،واخذل من خذله » .
وما يجاري صدقيّة هذه الرِّوايات ما رواه ابن جرير الطبري في كتاب الولاية عن زيد بن أرقمالصحابي المعروفأنَّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم بشأن علي بن أبي طالب .وكذلك روى الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي هريرة ،نقلاً عن تفسير الأمثل ،«عن النبي( ص ) أنَّ آية:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نزلت عقيب حادثة ( غدير خم ) والعهد بالولاية لعلي( ع ) ،وفي هذه المناسبة قال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يابن أبي طالب ،أصبحت مولاي ومولى كل مسلم » .
وجاء في كتاب الغدير إضافة إلى الرِّوايات الثلاث المذكورة ،ثلاث عشرة رواية أخرى في هذا المجال .
وورد في تفسير البرهان وتفسير نور الثقلين عشر روايات مختلفة حول نزول الآية في حق علي )ع(.
وهكذا نلاحظ استفاضة هذه الرِّوايات بحيث لا يمكن تجاهلها ،أو اعتبارها أخبار آحاد كما يحاول البعض مناقشة المسألة في هذا الاتجاه .
وقد يثور اعتراض على القول بأنَّ هذه الآية قد نزلت في الإشارة إلى ولاية علي( ع ) ،بعدم وجود علاقة بينها بهذا المعنى ،وبين الفقرات الأخرى السابقة واللاحقة المتحدثة عما يحلّ ويحرم من اللحوم ،الأمر الَّذي يبعد هذا التفسير لمصلحة التفسير الآخر بأنَّه إشارة إلى إكمال الفرائض والحدود والحلال والحرام بالتنزيل في الوحي .والجواب عن ذلك ،أنَّ الآيات القرآنية لم تجمع على أساس النزول التاريخي ،فقد نجد بعض الآيات المكيّة واردةً في بعض السور المدنية ،بل كانت تابعةً للمناسبات الّتي لاحظها النبي( ص ) الَّذي جمع القرآن بإشرافه ،وربَّما كانت المناسبة في الموضوع أنَّ الآية تتحدث عمّا شرعه الله في تفاصيل الأحكام الممثلة للدين ،ولهذا من المناسب التحدث عن إتمام الدين الَّذي بدأ بالنبوّة ،بقضيّة الولاية .والله العالم .
ومن هنا اعتبرت قضية الولاية من القضايا المهمة المصيرية في مستقبل الإسلام وقوته ،ما يؤكد ويؤيّد اعتبارها إكمالاً للدين الَّذي يحتاج إلى الرعاية من الشخص الَّذي عاش فكره وشعوره وجهاده للإسلام ،حتّى لم يعد هناكفي داخل ذاتهأيّ نوعٍ من الفراغ الَّذي يحتضن اهتمامات غير إسلامية .وقد يمكن للإنسان أن يفكر بأنَّ النبي( ص ) لا يمكن له ترك قضية الولاية من بعده للاجتهادات المختلفة ،الّتي قد تختلف على أسس ذاتية أو تقليدية ،باعتبار أنَّها لا تخضع لبرنامج إسلامي ٍّتشريعيٍّ محدد .فالدين الَّذي قد تعرّض لكل شيءٍ في أحكامه وتشريعاته حتّى أدق التفاصيل ،لا يتصور فيه أن يترك أمر الخلافة الكبير في أهميّته ونتائجه ،لا سيما لجهة استمرار خط الرسالة والنبوة ،حيث ،وكما هو معلوم تاريخياً ،لم يكن الوضع الإسلامي قد وصل إلى مستوى النضوج الكامل بفعل الأحداث الصعبة ،ما يجعل تركيز مسألة الخلافة والولاية وتأكيدها أمراً أساسياً في حركة التشريع .
وعلى أيّ حال ،فإنَّنا نثير هذه الأفكار انطلاقاً من وعينا لأهمية القيادة في حياة الأمة ،ليكون هذا الاتجاه في التفكير أساساً للبحث من أجل مواجهة الموقف بجديّةٍ ومسؤوليّةٍ من ناحية المبدأ والمنطلق .ويبقى للأدلة والحجج والنصوص الشرعيّة الدور الأكبر الأساس في الحكم على ما حدث بعيداً عن كل اجتهادٍ ٍذاتي ،أو انتماءٍ مذهبي ،لأنَّ القضيّة قضيّة إيمان وعلم ،فلا بُدَّ للمسلمين من الارتفاع في خلافاتهم إلى هذا المستوى الَّذي يقودهم إلى الحقيقة الدينيّة والتاريخيّة من أقرب طريق ،ويعلمهم كيف يمارسون هذا الخلاف بالأسلوب الإسلامي للحوار الَّذي يعتمد على الإخلاص للحقيقة من خلال الإخلاص لله ،ومواجهة المواقف من موقع الفكر العميق المنفتح المتأمل ،والله من وراء القصد .
حلّية أكل اللحوم المحرّمة عند الاضطرار
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .لقد جاء تحريم بعض اللحوم حفاظاً على سلامة جسد الإنسان وروحه ،فإذا طرأ عليه أمرٌ يجعل الامتناع عن أكل المحرمات موجباً للوقوع في التهلكة ،كالمجاعة مثلاً ،فإنَّ الله أباح له في هذه الحالة ما حرّمه في الحالات الطبيعية ،للغاية ذاتها الّتي كان التحريم من أجلها .وذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى:{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أنَّ هناك وجهين محتملين فيه:
أحدهما: أنَّ معناه غير مائل لإثم ،أو متعمّد له أو مختار أو مستحلّ .وذلك بأن يكون القيد قيداً توضيحياً ،لأنَّ معنى الاضطرار يوحي بكل هذه المفاهيم .
وثانيهما: أي غير عاصٍ بأن يكون باغياً أو عادياً أو خارجاً في معصية ،وذلك بأن يكون الاضطرار في ظروف عاديّة لا أثر فيها للأجواء المنحرفة الّتي تتحرك في طريق البغي والتمرُّد والعدوان ،وذلك من قبيل الاستيحاء للاية الكريمة:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ البقرة:173] لورودهما في سياق واحد ،وبذلك تكون الإباحة لغير هذه الفئة ،فمن اضطر في مثل هذه الأجواء فلا رخصة له ،ولكنَّه يتناول هذه المحرمات ارتكاباً لأخفِّ المحذورين ،بحكم العقل الَّذي يدفعه إلى ذلك .