إن قيل:فما تقولون في قول المظاهر:أنت علي كظهر أمي:هل هو إنشاء أو إخبار ؟ فإن قلتم إنشاء كان باطلا من وجوه:
أحدها:أن الإنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب . والله سبحانه قد كذبهم هنا في ثلاثة مواضع:
أحدها:في قوله:{ ما هن أمهاتهم} فنفى ما أثبتوه . وهذا حقيقة التكذيب . ومن طلق امرأته ، ولا يحسن أن يقال:ما هي مطلقته .
والثاني:في قوله تعالى:{ وإنهم ليقولون منكرا من القول} والإنشاء لا يكون منكرا من القول ، وإنما يكون المنكر هو الخبر .
والثاني:أنه سماه:{ زورا} والزور:هو الكذب .
وإذا كذبهم الله دل على أن الظهار إخبار لا إنشاء .
الثالث:أن الظهار محرم ، وليست جهة تحريمه إلا كونه كذبا .
والدليل على تحريمه:خمسة أشياء:
أحدها:ما وصفه بالمنكر .
والثاني:وصفه بالزور .
والثالث:أنه شرع فيه الكفارة ، ولو كان مباحا لم يكن فيه كفارة .
والرابع:أن الله قال:{ ذلكم توعظون به} [ المجادلة:3] والوعظ إنما يكون في غير المباحات .
والخامس:قوله:{ وإن الله لعفو غفور} [ المجادلة:2] والعفو والمغفرة:إنما يكونان عن الذنب . وإن قلتم هو إخبار ، هو باطل من وجوه:
أحدها:أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فجعله الله في الإسلام تحريما تزيله الكفارة . وهذا متفق عليه بين أهل العلم ولو كان خبرا لم يوجب عليه .
التحريم فإنه إن كان صدقا فظاهر وإن كان كذبا فأبعد له من أن يترتب عليه التحريم .
والثاني:أنه لفظ يوجب حكمه الشرعي بنفسه ، وهو التحريم . وهذا حقيقة الإنشاء ، بخلاف الخبر . فإنه لا يوجب حكمه بنفسه . فسلب كونه إنشاء مع ثبوت حقيقة الإنشاء فيه جمع بين النقيضين .
والثالث:أن إفادة قوله:«أنت علي كظهر أمي »:للتحريم . كإفادة قوله:«أنت حرة » ، و«أنت طالق » . وبعتك ، ورهنتك ، وتزوجتك ، ونحوها . لأحكامها .
فكيف يقولون:هذه إنشاءات دون الظهار ؟ وما الفرق ؟
قيل:أما الفقهاء فيقولون:الظهار إنشاء . ونازعهم بعض المتأخرين في ذلك . وقال:الصواب إنه إخبار .
وأجاب عما احتجوا به من كونه إنشاء .
قال:أما قولهم:كان طلاقا في الجاهلية:فهذا لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق ، بل يقتضي أنهم كانوا يزيلون العصمة عند النطق به . فجاز أن يكون زوالها لكونه إنشاء ، كما زعمتم ، أو لكونه كذبا ، وجرت عادتهم أن من أخبر بهذا الكذب زالت عصمة نكاحه . وهذا كما التزموا تحريم الناقة إذا جاءت بعشرة من الولد . ونحو ذلك .
قال:وأما قولكم:إنه يوجب التحريم المؤقت . وهذا حقيقة الإنشاء ، لا الإخبار - فلا نسلم أن ثم تحريما البتة . والذي دل عليه القرآن:وجوب تقديم الكفارة على الوطء ، كتقديم الطهارة على الصلاة . فإذا قال الشارع:لا تصل حتى تتطهر:لا يدل ذلك على تحريم الصلاة عليه . بل ذلك نوع ترتيب .
سلمنا أن الظهار ترتب عليه تحريم ، لكن التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له ، ودلالته عليه . وهذا هو الإنشاء . وقد يكون عقوبة محضة ، كترتيب حرمان الإرث على القتل .
وليس القتل إنشاء للتحريم ، وكترتيب التعزير على الكذب ، وإسقاط العدالة به .
فهذا ترتيب بالوضع الشرعي ، لا بدلالة اللفظ .
وحقيقة الإنشاء:أن يكون ذلك وضع لذلك الحكم . ويدل عليه ، كصيغ العقود . فسببية القول أعم من كونه سببا بالإنشاء أو بغيره . فكل إنشاء سبب ، وليس كل سبب إنشاء . فالسببية أعم . فلا يستدل بمطلقها على الإنشاء . فإن الأعم لا يستلزم الأخص . فظهر الفرق بين ترتب التحريم على الطلاق ، وترتبه على الظهار .
قال:وأما قولكم:إنه كالتكلم بالطلاق والعتاق والبيع ونحوها:فقياس في الأسباب . فلا نقبله . ولو سلمناه فنص القرآن يدفعه .
وهذه الاعتراضات عليهم باطلة .
أما قوله:إن كونه طلاقا في الجاهلية لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق . . .الخ .
فكلام باطل قطعا . فإنهم لم يكونوا يقصدون الإخبار الكذب ليترتب عليه التحريم ، بل كانوا إذا أرادوا الطلاق أتوا بلفظ الظهار إرادة للطلاق . ولم يكونوا عند أنفسهم كاذبين ولا مخبرين . وإنما كانوا منشئين للطلاق به . ولهذا كان هذا ثابتا في أول الإسلام . حتى نسخه الله بالكفارة في قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها وكانت تحت عبادة بن الصامت رضي الله عنه فقال لها «أنت علي كظهر أمي . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألته عن ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «حرمت عليه » فقالت:يا رسول الله ، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق ، وإنه أبو ولدي . وأحب الناس إلي . فقال صلى الله عليه وسلم:«حرمت عليه » . فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما أراك إلا قد حرمت عليه ، ولم أؤمر في شأنك بشيء » . فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا قال لها:حرمت عليه . هتفت وقالت:أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي ، وأن لي صبية صغارا ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا . وجعلت ترفع رأسها إلى السماء ، وتقول:اللهم إني أشكوا إليك ، وكان هذا أول ظهار في الإسلام . فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى الوحي . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ادعي زوجك » ، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما} الآيات [ المجادلة:1 . 4] .
فهذا يدل على أن الظهار كان إنشاء للتحريم الحاصل بالطلاق في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بالطلاق . وبهذا يبطل ما نظر به من تحريم الناقة عند ولادتها عشرة أبطن ونحوه، فإنه ليس هناك لفظ إنشاء يقتضي التحريم ، بل هو شرع منهم لهذا التحريم عند هذا السبب .
وأما قوله:إنا لا نسلم أنه يوجب تحريما:فكلام باطل . فإنه لا نزاع بين الفقهاء أن الظهار يقتضي تحريما تزيله الكفارة فلو وطئها قبل التكفير أثم بالإجماع المعروف من الدين . والتحريم المؤقت هنا كالتحريم بالإحرام ، وبالصيام والحيض .
وأما تنظيره بالصلاة مع الطهر ففاسد . فإن الله أوجب على المصلي أن يصلي صلاة بطهر . فإذا لم يأت بالطهر ترك ما أوجب الله عليه ، فاستحق الإثم . وأما المظاهر فإنه حرم على نفسه امرأته وشبهها بمن تحرم عليه . فمنعه الله من قربانها حتى يكفر، فهنا تحريم مستند إلى كفارة، وفي الصلاة لا تجزئ منه بغير طهر، لأنها صلاة غير مشروعة أصلا .
وقوله:التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له ، وقد يكون عقوبة إلخ .
جوابه:أنهما غير متنافيين في الظهار ، فإنه حرام ، تحرم به تحريما مؤقتا حتى يكفر . وهذا لا يمنع كون اللفظ إنشاء ، كجمع الثلاث عند من يوقعها ، والطلاق في الحيض فإنه يحرم ويعقبه التحريم . وقد قلتم:إن طلاق السكران يقع عقوبة له ، مع أنه لو لم يقصد إنشاء سبب لم تطلق امرأته اتفاقا ، فكون التحريم عقوبة لا ينفي أن يستند إلى أسبابها التي تكون إنشاءات لها .
قوله:السببية أعم من الإنشاء، جوابه:أن السبب نوعان:فعل وقول ، فمتى كان قولا لم يكن إلا إنشاء . فإن أردتم بالعموم:أن سببية القول أعم من كونها إنشاء وإخبارا فممنوع . وإن أردتم أن مطلق السببية أعم من كونها سببية بالفعل والقول . فمسلم . ولا يفيدكم شيئا .
وفصل الخطاب:أن قوله:أنت علي كظهر أمي:يتضمن إنشاء وإخبارا ، فهو إنشاء من حيث قصد التحريم بهذا اللفظ ، وإخبار من حيث تشبيهها بظهر أمه ولهذا جعله الله منكرا وزورا ، فهو منكر باعتبار الإنشاء ، وزور باعتبار الإخبار .
وأما قوله:إن المنكر هو الخبر الكاذب من النكر، والنكر أعم منه، فالإنكار في الإنشاء والإخبار ، فإنه ضد المعروف ، فما لم يؤذن فيه من الإنشاء فهو منكر، وما لم يكن صدقا من الإخبار فهو زور .