وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا ما يشفى ، فراجع أقوالهم تجدها لا تشفى عليلا ، ولا تروي غليلا .
ومعنى الآية أجل وأعظم مما فسروها به ، ولم يتفطنوا لوجه الإضراب ، بل ولا للأمر الذي بدا لهم ، وكانوا يخفونه وطنوا أن الذي بدا لهم العذاب . فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله:{ ما كانوا يخفون من قبل} قد روا مضافا محذوفا ، وهو خبر ما كانوا يخفون من قبل فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه ، وهو:أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم ، بل كانوا يظهرونه ، ويدعون إليه ، ويحاربون عليه . ولما علموا أن هذا وارد عليهم ، قالوا:إن القوم في بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه ، وقالوا:{ والله ربنا ما كنا مشركين} [ الأنعام:23] . فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذي أخفوه .
قال الو احدي:وعلى هذا أهل التفسير .
ولم يصنع أرباب هذا القول شيئا . فإن السياق والإضراب ، بل والأخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وقولهم:{ والله ربنا ما كنا مشركين} لا يلتئم بهذا الذي ذكروه . فتأمله .
وقالت طائفة منهم الزجاج:بل بدا لاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء ، من أمر البعث ، وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير ، وفيه من التكلف ما ليس بخاف .
وأجود من هذا:ما فهمه المبرد من الآية ، قال:كأن كفرهم لم يكن باديا لهم ، إذا خفيت عليهم مضرته .
ومعنى كلامه:أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله ، فكأنه كان خفيا عنهم ، لم تظهر لهم حقيقته ، فلما عاينوا العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره .
قال:وهذا كما تقول لمن كنت حدثته في أمر قبل:وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك . وقد كان ظاهرا له قبل هذا . ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذي كانوا ينادون به على رءوس الأشهاد ويدعون إليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه ، لخفاء عاقبته عنهم . ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد ، وقتل النفوس وسعى في الأرض بالفساد:أنه أخفى ذلك ، لجهله بسوء عاقبته ، وخفائها عليه فمعنى الآية - والله أعلم بما أراد من كلامه -:أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها ، وعلموا أنهم داخلوها ، تمنوا أنهم يردون إلى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته ، ولا يعودون إلى تكذيب رسله ، فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك ، وأنهم ليس في طبائعهم وسجاياهم الإيمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله ، وأخبر أنهم كاذبون في زعمهم:أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا .
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الإضراب ؛ ببل وتبين معنى الذي بدا لهم ، والذي كانوا يخفونه ، والحامل لهم على قولهم:{ يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا} [ الأنعام:27] فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا في الدنيا على باطل ، وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله ، وتيقنوا ذلك وتحققوه ، ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم ، بل تواصوا بكتمانه ، فلم يكن الحامل لهم على تمنى الرجوع والإيمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل ، فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه . وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل ، وأن الرسل على الحق ، فعاينوا ذلك عيانا ، بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه ، فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالإيمان ، ولعادوا إلى الكفر والتكذيب ، فإنهم لم يتمنوا الإيمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق ، وأن الشرك باطل . وإنما تمنوه لما عاينوا العذاب الذي لا طاقة لهم باحتماله ، وهذا كمن كان يخفى محبة شخص ومعاشرته ، وهو يعلم أن حبه باطل ، وأن الرشد في عدوله عنه ، فقيل له:إن اطلع عليه وليه عاقبك ، وهو يعلم ذلك ويكابر ، ويقول:بل محبته ومعاشرته هي الصواب ، فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة ، تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاودة بعد معاينة العقوبة ، بل بعد أن مسته وأنهكته ، فظهر له عند العقوبة ما كان يخفى من معرفته بخطئه ، وصواب ما نهاه عنه ، ولو رد لعاد لما نهى عنه .
وتأمل مطابقة الإضراب لهذا المعنى ، وهو نفى قولهم:إنا لو رددنا لآمنا وصدقنا ؛ لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق ، أي ليس كذلك ، بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه ، وكنتم تخفونه ، فلم يظهر لكم شيء لتكونوا عالمين به لتعذروا ، بل ظهر لكم ما كان معلوما ، وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه . والله أعلم .