وتتلاحق مشاهد القيامة في القرآن في أساليب متنوّعةٍ ،لتجسّد أمام الناس في الدنيا قضيّة المصير ،عبر النماذج القلقة التي تواجه العقيدة في حياتها الفكرية والعملية مواجهة اللامبالاة ،فتنكرها وفقاً لمزاج يقتضي ذلك ،وتلفّ وتدور وتشاغب وتقف في وجه العاملين في سبيل الله ،استجابةً لهوى النفس وطمعها .
إن الله يحدثنا عن هؤلاء في مواقف القيامة ،كما حدثنا عن بعض مواقفهم في الدنيا ،وقد انطلق حديث القرآن عن مواقف الناس يوم القيامة ،من منهج تربوي عرضه لإثارة التفكير في القضايا من داخلها ،في ما تختزنه طبيعتها الذاتية من خصائص ومقوّماتٍ ،أوّلاً ،وفي نتائجها السلبيّة والإيجابية ،في ما تمثّله قضية المصير ،ثانياً ،لأن ذلك يدفع الإنسان إلى مواجهة القضايا بطريقةٍ موضوعيّةٍ من أجل الوصول إلى القناعة المحدّدة ،ليؤمن أو لا يؤمن ،وقد يواجهها بطريقةٍ شعوريّةٍ من أجل أن يصل إلى نتائجها العملية ليخاف أو ليأمن ،وربما كانت الطريقة الثانية سبيلاً للاهتمام بالقضايا على خطّ الطريقة الأولى .
{ولو ترى إذ وُقِفُوا على النار} هؤلاء الذين كذبوا الرسول وأنكروا الرسالة ،وكانوا ينهون أو ينأون عنه ،ليأخذوا حريتهم في فعل ما يطيب لهم ،إنك لن تجد أيَّ جُهدٍ في العثور عليهم ،فهم بارزون أمام كل ناظرٍ ،فيمكن لكل من يملك عينين مفتوحتين أن يراهم حين يوقفون على النار ليدخلوها ،جزاء أعمالهم في الدنيا .وهنا تبرز صورتهم من الخارج ومن الداخل ،فها هم يواجهون الموقف الصعب بالتراجع عن كل مواقفهم السابقة ،من تكذيب الرسل ،وإنكار الإيمان ،وقد أراد الله إظهار ذلك ،فترك لهم حريّة الكلمة الأخيرة المعبّرة عن حالة السقوط النفسي المهين بإطلاق التمنيات اليائسة الذليلة ،بأن يردّوا إلى الدنيا ،ليرفضوا عندها تكذيب آيات ربّهم ،ويلتزموا خط الإيمان ..فقد اتضح الأمر لديهم وبان ،ولم يبق لديهم أيّة شبهة حول الإيمان ونتائجه ،وهكذا كان .
{فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بَِايَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ولكن هل هذا الموقف ناتج عن قناعة مرتكزة على أساس ثابت بعيداً عن الأجواء الطارئة الضاغطة على المشاعر ،أم أنّ الموقف هو موقف الصدمة المفاجئة التي تهزّ المشاعر ،حتى إذا أفاق الإنسان منها رجع إلى مواقعه السابقة كما لو لم يكن حصل أيّ شيء في حركة الموقف ،وفي مستوى المسؤولية ؟!َقد لا تستطيع الحالة السريعة أن تعطينا فكرةً عن هذا أو ذاك ،ولكن ما يكمن في خلفية الشخصية وعمقها وامتدادها يمكن أن يكشف عن الحقيقة الكامنة في الداخل ،فنكتشفمن خلالهاأنّ هؤلاء لا يعيشون الجدية في مواجهة المسؤولية ،بل يقابلونها باللاّمبالاة الوجدانيّة ،ولذلك جمّدوا فكرهم أمام كل مواقع الإثارة الفكرية والعملية ،فلم يتوقفوا عند علامات الاستفهام العريضة التي كانت تخاطب فكرهم عندما كانوا في الدنيا ،بالرغم من كل المؤثرات والدلائل التي كانت تفرض التوقف عندها ،بل كل ما فعلوه أنهم خضعوا للأجواء المثيرة المنفعلة بالجوّ الطارىء فيما يوحيه ويثيره ،حتى إذا ابتعد عنهممن جديدأو ابتعدوا عنه ،عادوا إلى سيرتهم الأولى .