/م27
فقال عز من قائل:
{ ولو ترى إذ وقفوا على النار}{ لو} شرطية حذف جوابها لتذهب النفس في تصوره كل مذهب ، وذلك أبلغ من ذكره ، ومنه المثل « ولو غير ذات سوار لطمتني » و « وقفوا » بالبناء للمفعول أي وقفهم غيرهم ، يقال:وقف الرجل على الأرض وقوفا ، ووقف على الأطلال أي عندها مشرفا عليها ، أو قاصرا همه عليها – وعلى الشيء:عرفه وتبينه .ووقف نفسه على كذا وقفا:حبسها كوقف العقار على الفقراء ، ووقف الدابة وقفا جعلها تقف .والمعنى ولو ترى أيها الرسول – أو أيها السامع – بعينيك هؤلاء الضالين المكذبين إذ تقفهم ملائكة العذاب على النار فيقفون عندها مشرفين عليها من أرض الموقف – وهي هاوية سحيقة ، أو مقصورين عليها لا يتعدونها – أو يقفون فوقها على الصراط ؛ أو لو ترى إذ يدخلونها فيقفون على ما فيها من العذاب الأليم بذوقهم إياه و « من ذاق عرف » – أي لو ترى ما يحل بهم حينئذ وما يكون من أمرهم ومن ندمهم على كفرهم ومن حسرتهم وتمنيهم ما لا ينال – لرأيت أمرا عظيما لا تدركه العبارة ولا يحيط به الوصف .
وقد ذكر ما يكون من وقفهم على النار وما يترتب عليه من قولهم بصيغة الماضي الواقع في حيز فعل الشرط المستقبل للإعلام بتحقق وقوعه ، على القول المشهور في مثله ، وقال الرازي في تعليله:إن كلمة « إذ » تقام مقام « إذا » إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي يفيد المبالغة من هذا الاعتبار .
وأما قوله تعالى:{ فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ( 27 )} فقد عطف بالفاء للدلالة على أن أول شيء يقع حينئذ في قلوبهم ، ويسبق التعبير عنه إلى ألسنتهم ، هو الندم على ما سلف منهم ، وتمني الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا .اختلف القراء في إعراب « نكذب ونكون » فرفعهما الجمهور ونصبها حمزة وحفص عن عاصم ، ونصب ابن عامر « نكون » فقط .فقراءة الجمهور بالعطف على ( نرد ) تفيد أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا ، وأن لا يكذبوا بعد عودتهم إليها بآيات ربهم كما كذبوا من قبل ، وأن يكونوا من المؤمنين بما جاء به الرسول ، أي تمنوا هذه الثلاثة ، وقيل بل تمنوا الأول فقط .
وقوله:{ ولا نكذب} الخ معناه ونحن لا نكذب الخ وعلى هذا يكون الإيمان وعدم التكذيب غير داخلين في التمني ، وشبهه سيبويه بقولهم:دعني ولا أعود .وهو طلب للترك فقط ، والوعد بعدم العود مستأنف مقطوع عما قبله ، والتقدير:وأنا لا أعود تركتني أم لم تتركني .وفيه وجه ثالث وهو أن قوله:{ ولا نكذب} جملة حالية قال الزمخشري:على معنى غير مكذبين وكائنين من المؤمنين ، فيدخل في حكم التمني .اه .
وقد يتوهم أن دخوله في حكم التمني يجعله بمعنى الوجه الأول وليس كذلك ، فإن معنى الوجه الأول أنهم يتمنون الرد وعدم التكذيب والإيمان على سواء ، ومعنى الثاني أنهم يتمنون الرد فقط ويعدون بالإيمان وعدم التكذيب وعدا خبريا مؤكدا غير مقيد بإجابتهم إلى ما يتمنون .وأما إذا جعلنا{ ولا نكذب} الخ جملة حالية – وهو الوجه الثالث – فإنها تصدق بحصول كل من عدم التكذيب والإيمان قبل الرد إلى الدنيا .فلا يكون التمني متعلقا بهما لذاتهما لأنهما حاصلان والحاصل لا يتمنى ، وإنما يكون متعلقا بالرد المصاحب لهما ، الذي تمنى وقوعه بعد وقوعهما ، وذلك وعد غير خبري ولا إنشائي بهما ، لأن الحاصل لا يوعد به كما أنه لا يتمنى .
وقد بينا في تفسير{ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [ النساء:43] – الآية – الفرق بين الحال المفردة والجملة الحالية ، وأن الأصل في مضمون الجملة الحالية أن يكون سابقا للفعل العامل في الحال .وهؤلاء رجعوا عن التكذيب عند وقفهم على النار وحصل لهم الإيمان القاطع بصدق الرسول فتمنوا أن يعودوا إلى الدنيا مصاحبين لذلك ، فيصح أن يقال في الجملة إن عدم التكذيب والإيمان داخلان تحت حكم التمني من حيث اشتراطهما فيه ، لا أنهما متمنيان كالرد سواء .
وأما قراءة حمزة وحفص بنصب الفعلين فقيل إنه على جواب التمني وقيل إن الواو للحال كقولهم:لا تأكل السمك وتشرب اللبن .وقيل إنها أجريت مجرى فاء السببية أو أبدلت منها وأيدوه بقراءة ابن مسعود « فلا نكذب » وقيل إن العطف على مصدر متوهم أي يا ليت لنا ردا وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين .فعلى التوجيهين الأولين لهذه القراءة يدخل ما ذكر في حكم التمني على الوجه الذي وجهنا به جعل الجملة حالية في قراءة الجمهور وظاهر التوجيه الثالث تعلق التمني بالأمور الثلاثة على سواء ، وقد علم من توجيه هذه القراءة توجيه قراءة ابن عامر أيضا .ولعل حكمة اختلاف القراءات بيان اختلاف أحوال أولئك المشركين في تمنيهم:بأن يكون منهم من يتمنى أن يرد إلى الدنيا وأن يكون فيها غير مكذب بآيات الله الكونية والمنزلة وأن يكون من المؤمنين ، ومنهم من يتمنى الرد مصاحبا لما حدث له في الآخرة من الندم على التكذيب ومن الإيمان بما جاء به الرسول إذ لا تلازم بين الرد وبقاء ذلك الأمر الحادث ، ومنهم من يتمناه ليكون سببا للإيمان وعدم التكذيب ، ومنهم من يعد بذلك وعدا ، وهذا الاختلاف في كيفيات ذلك التمني أقرب إلى الحصول من اتفاق أولئك الكفار الكثيرين على كيفية واحدة مما يدل عليه اختلاف القراءات ، لأنه هو المعهود من البشر .ولعلهم يتمنون ذلك جاهلين أنه محال ، على أن الناس يتمنون المحال ولو على سبيل التحسر .