/م27
قال تعالى مبينا كنه حالهم وما ظهر لهم منه في الآخرة وما يقتضي أن يكونوا عليه في الدنيا لو ردوا إليها:
{ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} قالوا إن الإضراب في هذه الآية إضراب عما يدل عليه تمنيهم من إدراكهم لقبح الكفر وسوء مغبته ، ولحقية الإيمان وحسن عاقبته ، وعزمهم على الإيمان وترك التكذيب لو أعطوا ما تمنوا من الرد إلى الدنيا ووعدهم بذلك نصا أو ضمنا ، كأنه يقول ليس الأمر كما يوهمه كلامهم في التمني بل ظهر لهم ما كانوا يخفونه في الدنيا وفيه أقوال:
1- أنه أعمالهم السيئة وقبائحهم الشائنة ، ظهرت لهم في صفائحهم ، وشهدت بها عليهم جوارحهم .
2- أنه أعمالهم التي كانوا يغترون بها ، ويظنون أن سعادتهم فيها ، إذ يجعلها الله تعالى هباء منثورا .
3- أنه كفرهم وتكذيبهم الذي أخفوه في الآخرة من قبل أن يوقفوا على النار كما تقدم حكايته عنهم في قوله:{ ثم لم تكن فتنتهم إلا قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [ الأنعام:23] .
4- أنه الحق أو الإيمان الذي كانوا يسرونه ويخفونه بإظهار الكفر والتكذيب عنادا للرسول واستكبارا عن الحق ، وهذا إنما ينطبق على أشد الناس كفرا من المعاندين المتكبرين الذين قال في بعضهم{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [ النمل:14] .
5- أنه ما كان يخفيه الرؤساء عن أتباعهم من الحق الذي جاءت به الرسل – بدا للأتباع الذين كانوا مقلدين لهم ، ومنه كتمان بعض علماء أهل الكتاب لرسالة نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته وبشارته وبشارة أنبيائهم به .
6- أنه ما كان يخفيه المنافقون في الدنيا من أسرار الكفر والتظاهر بالإيمان والإسلام .
7- أنه البعث والجزاء ومنه عذاب جهنم ، وأن إخفاءهم له عبارة عن تكذيبهم به ، وهو المعنى الأصلي لمادة كفر .
8- أن في الكلام مضافا محذوفا ، أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر والسيئات ونزل بهم عقابه فتبرموا وتضجروا وتمنوا التفصي منه بالرد إلى الدنيا وترك ما أفضى إليه من التكذيب بالآيات وعدم الإيمان ، كما يتمنى الموت من أمضه الداء العضال لأنه ينقذه من الآلام ، لا لأنه محبوب في نفسه .
ونحن لا نرى رجحان قول من هذه الأقوال بل الصواب عندنا قول آخر .
9- وهو أنه يظهر يومئذ لكل من أولئك الذين ورد الكلام فيهم ولأشباههم من الكفار ما كان يخفيه في الدنيا مما هو قبيح في نظره أو نظر من يخفيه عنهم ، فالذين كفروا عنادا واستكبارا كالرؤساء الذين ظهر لهم الحق كانوا يخفون ذلك الحق ، ومنهم بعض علماء أهل الكتاب – والمنافقون الذين أظهروا الإيمان جبنا وضعفا أو مكرا وكيدا ، كانوا يخفون الكفر عن المؤمنين – وأصحاب الأعمال القبيحة من الفواحش والمنكرات يخفونها عمن لا يقترفها معهم – والذين يعتذرون عن ترك الواجبات بالأعذار الكاذبة يخفون حقيقة حالهم عمن يعتذرون إليهم ، والمقلدون يخفون في أنفسهم ما يلوح فيها أحيانا من برق الدليل المظهر لما كمن ، في أعماق الفطرة من الحق ، سواء أومض ذلك البرق من آيات الله في الآفاق ، وألسنة حملة الحجة والبرهان ، أو من آيات الله في أنفسهم ، قبل أن تحيط بهم خطيئتهم ويختم على قلوبهم ، وهؤلاء المقلدون العميان هم الذين بينت الآيات حالهم في الدنيا ، وإنما جعلنا ما تلا ذلك من بيان حالهم في الآخرة عاما لكل من مات على الكفر لتساويهم فيه وعدم استفادة أحد منهم من استعداده للإيمان ، لعدم استعمالهم لذلك الاستعداد .
وقد يعم الإخفاء للشيء ما كان منه بالقصد إليه والإرادة له في ذاته ، وما كان ظاهرا في نفسه وخفي عن أهله بأعمال وتقاليد لهم عدوا بها مخفين له ، كالعقائد والفضائل التي أودعت في الفطرة ، ودلت عليها آيات الله البينة ، وأعرض عنها الضالون والتزموا ما يضادها فأخفوها بذلك حتى عن أنفسهم ، فإذا كان يوم الله الذي تبلى فيه السرائر ، وتنكشف جميع الحقائق ، وتشهد على الناس الأعضاء والجوارح ، إذ تنشر كتب الأعمال ، التي كانت مطوية في زوايا الأرواح ، فتتمثل لكل فرد أعماله النفسية والبدنية كلها ، في كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، كما تتمثل الوقائع المصورة ، في المنظرة التي يعرض فيها ما يعرف الآن بالصور المتحركة ، فإن حفظ ألواح الأنفس المدركة لما ترسمه وتطبعه العقائد والأعمال فيها ، أقوى وأثبت من حفظ ألواح الزجاج الحساسة لما يرسمه ويطبعه نور الشمس عليها ، وعرض الصور الشمسية في الدنيا دون عرض الصور النفسية في الآخرة .
وبهذا البيان تعلم أن كل أحد يظهر له في الآخرة كل ما كان خفيا عنه من خير نفسه وشرها ،{ يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [ الحاقة:18] أي لا تخفى على أنفسكم ، فضلا عن خفائها على ربكم .وقد خص بالذكر هنا بدو ما كان يخفيه الكفار ، ولكل مقام مقال ، بين الله تعالى لنا أن تمني أولئك الكفار لما تمنوا لا يدل على تبدل حقيقتهم ، بل بدا لهم ما كان خفيا عنهم منها ، بإخفائهم إياه عن الناس أو عنها ،{ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون} [ الزمر:47 ، 48] فتمنوا الخروج مما حاق بهم ، ولكن الحقيقة لا تتغير ، وإنما يكون لها أطوار ، تختلف باختلاف الأحوال والأوطار .
{ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} من الشرك والكفر والنفاق والكيد والمكر والمعاصي ، لأن مقتضى ذلك من أنفسهم ثابت فيها ، وما دامت العلة ثابتة فإن أثرها وهو المعلول لا يتخلف عنها ،{ وإنهم لكاذبون ( 28 )} فيما تضمنه تمنيهم من الوعد بترك التكذيب بآيات الله ، وبالكون من المؤمنين بالله ورسوله ، سواء علموا حين تمنوا ووعدوا أنهم كاذبون في هذا الوعد أم لم يعلموا ، فلو ردوا إلى الدنيا لرد المعاند المتكبر منهم مشتملا بكبره وعناده ، وكل من الماكر والمنافق مرتديا بمكره ونفاقه ، والمقلد مقيدا بتقليده لغيره ، وعدم ثقته بفهمه وعلمه ، والشهواني ملوثا بشهواته المالكة لرقه .وأما ما ظهر لهم إذ وقفوا على النار من حقية ما جاء به الرسل ، فإنما مثله كمثل ما كان يلوح لهم في الدنيا من البينات والعبر ، ألم تر كيف يكابرون فيها أنفسهم ، ويغالطون عقلهم ووجدانهم ، ويمارون مناظريهم وأخدانهم ، يشرب الفاسق الخمر فيصدع ، أو يلعب بالقمار فيخسر ، ويأكل المريض أو ضعيف البنية الطعام الشهي أو يكثر منه فيتضرر ، ويرى غير هؤلاء من المخالفين لشرع الله المنزل بالحق ، أو لسننه الثابتة التي أقام بها نظام الخلق ، ما حل من الشقاء بغيره ممن سبقه إلى مثل عمله – فيندم كل واحد ممن ذكرنا ويتوب ، ويعزم على أن لا يعود ، وإنما يكون هذا عند فقد داعية العمل ، ووجود داعية الترك ، فإذا عادت الداعية إلى العمل عاد إليه خضوعا لما اعتاد وألف ، وترجيحا لما يلذ على ما ينفع .
ومن وقائع العبر في ذلك ما حدث لأخ لي عملت له عملية جراحية خدر قبلها البنج ( كلورفورم ) فكان من تأثيره فيه أنه شعر بأن روحه تسل من بدنه ، وقد طال الأمد على اندمال جرحه ، وكان قبل ظهور أمارات الشفاء منه يخاف أن يذهب بنفسه ، فيندم ويتحسر على ما كان منه من التفريط والتقصير في الواجبات ، وإضاعة الأوقات الطويلة في البطالة واللهو وإن كان من المباحات ، وعزم على الجد والتشمير فيما بقي من عمره ، إن عافاه الله من مرضه ، حتى عزم على الاستمرار على ترك شرب الدخان ،الذي منعه الطبيب منه في أثناء أخذه بالعلاج ، ولكنه لما عاد إلى مثل ما كان عليه من الصحة على أنها لم تكن سابغة ، عاد كذلك لجميع أعماله وعاداته السابقة ، على أنه تذكر من تلقاء نفسه هذه الآية:{ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} وعد ما وقع له شاهدا لها ، ومثالا تعرف به حقيقة تفسيرها .
ويستنبط من الآية أن الطريقة المثلى لإقامة الناس على صراط الحق والفضيلة إنما هي حملهم على ذلك بالعمل والتعويد ، مع التعليم وحسن التلقين ، كما يربى الأطفال في الصغر ، وكما يمرن الرجال على أعمال العسكر ، وأن من أكبر الخطأ أن يسمح للأحداث بطاعة شهواتهم وإتباع أهوائهم بشبهة تربيتهم على الحرية والاستقلال ، الذي يهديهم إلى الحق والفضيلة بما يفيدهم العلم في سن الرشد من الاقتناع بطريق الاستدلال .أقول:إن هذا من أكبر الخطأ – وأنا عالم بفضل التربية الاستقلالية ومن الدعاة إليها – لأنه قلما يوجد في الناس من يتبع هواه وشهواته في الصغر ، ثم يرجع عن ذلك كله في الكبر ، بعد أن يصير ملكة وعادة له ، لقيام الدليل عنده على أنه ينافي الحق أو العدل والفضيلة .وإنما يقع مثل هذا من أفراد من الناس خلقوا مستعدين للحكمة ، بما أوتوا من سلامة الفطرة وقوة العزيمة ، أو من إتباع الرسل في زمن البعثة .
وأكثر البشر مسخرون لعادتهم ، منقادون لما ألفوا في أول نشأتهم ، لا يخالفون ذلك إلا قليلا ، يتكلفون المخالفة تكلفا عند عروض ما يقتضي ذلك ، فإذا زال المقتضي عادوا إلى عادهم وشنشنتهم ، وعملوا على سابق شاكلتهم ؛ وإنما تربية الصغار على ما عرف من الحق وتقرر من أصول الفضيلة والأدب ، كتربيتهم على النظافة ومراعاة قوانين الصحة ، لا يشترط أن يعرفوا من أول النشأة فائدة ذلك بالدليل والبرهان ، وتأخير تلقينهم هذه الفائدة إلى وقت الاستعداد لها في الكبر لا ينافي تربية الاستقلال ، وأوضح الشواهد والأمثلة المعروفة على ما قلنا فشو السكر في أمم الإفرنج ومقلدتهم من الشرقيين ، فإن أكثرهم يعلمون أنه ضار قبيح ، ولا يكاد يوجد في مئة الألف منهم واحد يتركه ، بعد أن اعتاده وأدمنه ، لاقتناعه بضرره بما ثبت من الدلائل الطبية ، والتجارب القطعية .