قوله:{ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} إضراب عن قولهم{ ولا نكذّب بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين} .والمعنى بل لأنّهم لم يبق لهم مطمع في الخلاص .
وبدا الشيء ظهر .ويقال: بدا له الشيء إذا ظهر له عياناً .وهو هنا مجاز في زوال الشكّ في الشيء ،كقول زهير:
بدا ليَ أنّي لستُ مدرك ما مضى *** ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائياً
ولمّا قوبل{ بدا لهم} في هذه الآية بقوله:{ ما كانوا يخفون} علمنا أنّ البَداء هو ظهور أمر في أنفسهم كانوا يخفونه في الدنيا ،أي خطر لهم حينئذٍ ذلك الخاطر الذي كانوا يخفونه ،أي الذي كان يبدو لهم ،أي يخطر ببالهم وقوعه فلا يُعلنون به فبدا لهم الآن فأعلنوا به وصرّحوا مُعترفين به .ففي الكلام احتباك ،وتقديره: بل بدا لهم ما كان يبدو لهم في الدنيا فأظهروه الآن وكانوا يخفونه .وذلك أنّهم كانوا يخطر لهم الإيمان لما يرون من دلائله أو من نصر المؤمنين فيصدّهم عنه العناد والحرص على استبقاء السيادة والأنفة من الاعتراف بفضل الرسول وبسبق المؤمنين إلى الخيرات قبلهم ،وفيهم ضعفاء القوم وعبيدهم ،كما ذكرناه عند قوله تعالى:{ ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي} في هذه السورة[ 52] ،وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى:{ ربما يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين} في سورة[ الحجر: 2] .وهذا التفسير يغني عن الاحتمالات التي تحيّر فيها المفسّرون وهي لا تلائم نظم الآية ،فبعضها يساعده صدرُها وبعضها يساعدُه عجزها وليس فيها ما يساعده جميعها .
وقوله:{ ولو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه} ارتقاء في إبطال قولهم حتى يكون بمنزلة التسليم الجدلي في المناظرة ،أي لو أجيبت أمنيتهم وردّوا إلى الدنيا لعادوا للأمر الذي كان النبي ينهاهم عنه ،وهو التكذيب وإنكار البعث ،وذلك لأنّ نفوسهم التي كذّبت فيما مضى تكذيب مكابرة بعد إتيان الآيات البيّنات ،هي النفوس التي أرجعت إليهم يوم البعث فالعقل العقل والتفكير التفكير ،وإنّما تمنّوا ما تمنّوا من شدّة الهول فتوهّموا التخلّص منه بهذا التمنِّي فلو تحقّق تمنّيهم وردّوا واستراحوا من ذلك الهول لغلبت أهواؤهم رشدَهم فنسوا ما حلّ بهم ورجعوا إلى ما ألفوا من التكذيب والمكابرة .
وفي هذا دليل على أنّ الخواطر الناشئة عن عوامل الحسّ دون النظر والدليل لا قرار لها في النفس ولا تسير على مقتضاها إلاّ ريثما يدوم ذلك الإحساس فإذا زال زال أثره ،فالانفعال به يشبه انفعال العجماوات من الزّجر والسّوط ونحوهما .ويزول بزواله حتّى يعاوده مثلُه .
وقوله:{ وإنّهم لكاذبون} تذييل لما قبله .جيء بالجملة الاسمية الدالّة على الدوام والثبات ،أي أنّ الكذب سجيّة لهم قد تطبّعوا عليها من الدنيا فلا عجب أن يتمنّوا الرجوع ليؤمنوا فلو رجعوا لعادوا لما كانوا عليه فإنّ الكذب سجيّتهم .وقد تضمّن تمنِّيهم وعدا ،فلذلك صحّ إدخاله في حكم كذبهم دخول الخاصّ في العامّ ،لأنّ التذييل يؤذن بشمول ما ذيّل به وزيادة .فليس وصفهم بالكذب بعائد إلى التمنّي بل إلى ما تضمّنه من الوعد بالإيمان وعدم التكذيب بآيات الله .