وهذا ما أوضحه القرآن الكريم في قوله تعالى:{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} فهم لم يكتشفوا في ما شاهدوه شيئاً جديداً ،بل كانوا يتوهمون الحقائق قبل ذلك ويخفونها لئلا تقوم عليهم الحجة أمام الآخرين ،فينكرونها من موقع القناعة بها ،{وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} لأنهم لم ينحرفوا لشبهةٍ عرضت لهم ،ولا لخطأ وقعوا فيه ،بل كان ذلك لاستسلامهم أمام شهواتهم وأطماعهم بما كان يدفعهم إلى الإنكار في مواقع الحقيقة وإلى التمرّد في مقتضيات الطاعة ،وإلى التسويف في مواقف التوبة ،ولذلك فإن الصدمة أمام أهوال النار سوف تتضاءل عندما ينفصلون عن الجو تدريجياً ،ويبتعدون عن تهاويله في الزمان والمكان ،فيرجعون إلى ما كانوا عليه ،لأن شخصيتهم لا تحتمل التأثر بالفكرة العميقة ،بل تتحرك تبعاً لظروف الجو ومزاجية الرأي .
وقد يكون هذا اللون من أوضاع الشخصية الإنسانية ،يمثل طبيعة الظاهرة في أكثر من مجتمع ،سواءٌ في ذلك مجتمع الكافرين ،أو المجتمع الذي يتبنّى الإيمان كعقيدة .فقد نلجأ في حالات المرض والخوف إلى الله ونتوب إليه مما أسلفنا من ذنوبنا ،ونعزم على تصحيح الموقف أملاً في الشفاء من المرض والأمن من الخوف ،فإذا كشف الله عنا ذلك كله ،نسينا كل ما التزمنا به لله من موقف أو عمل ،وعدنا إلى ما كنا فيه ..
إن القضية التي تحكم هذه الظاهرة في الوجه السلبي أو الإيجابي منها ،هي أن هناك فرقاً بين أن تكون خطوات الإنسان العملية منطلقةً من قاعدة أساسية في طريقة التفكير والانتماء والعمل ،وبين أن تكون خاضعة للأجواء الطارئة التي يعيشها الإنسان .ففي الحالة الأولى ،نجد الثبات والصلابة والتركيز في الفكر والموقف بالرغم من كل ما يهز الفكر أو يثير الشعور ،حيث يزداد الموقف في هذا الحال قوّة في الأجواء الملائمة ،ويزداد توتّراً في الأجواء غير الملائمة ،فيشعرهم بالحاجة إلى مواجهة التحدي بقوة ضاغطة .وفي الحالة الثانية ،نجد الاهتزاز والضعف والانسحاق أمام أيّة حالة جديدة ،ما يوحي إليهم بالانتقال إلى مواقع جديدة مضادّةٍ لمواقعهم الحقيقية ،في الفكر والانتماء والعمل .
وربما كان من الضروري للإنسان المؤمن أن يختبر نفسه ليعرف في أيّ اتجاهٍ يسير ،ومن أيّة قاعدة ينطلق ،ليحدّد لنفسه وللآخرين مسار تنمية القدرة الروحية والعملية في الخط الصحيح ،فإنّ إهمال ذلك قد يجعل الرؤية غير واضحة وينتهي بالموقف إلى غير وجهته الطبيعية في الحياة .إن علينا أن ندخل هذا الجانب في حركة بناء الشخصية الإنسانية ،فلا نتعلق بالسطح الظاهر ،بل نحاول دائماً النفاذ إلى الأعماق ،فإن الله يريد منا صناعة الشخصية التي تخلق الأجواء ولا تحاول الخضوع للأمر الواقع وتبريره مهما كان لونه .
ويختم الله الآية بالنتيجة الحاسمة لموقفهم الحقيقي:{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في كل ما يثيرونه من جوٍّ يوحي بأنهم سيتراجعون عما كانوا فيه .