{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} فلا يكتفون بالإنكار الذاتي بل يعملون على محاربته وإبعاد الناس عنه ،{وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} ويبتعدون عنه بكل ما لديهم من الوسائل المادية والمعنوية ،لأن المساحة الفاصلة بين طريقتهم في التفكير المتحركة في أجواء العبث ،وبين طريقة النبي( ص ) المتحركة في خطّ المسؤولية ،مساحة كبيرة جداً ،ما جعل من مسألة ابتعادهم عنه وإبعاد الناس عن دينه مسألةً تمتد إلى عمق شخصيتهم وتفكيرهم في كل قضايا الحياة .ولكنهم لا يضرونه في ذلك كله ،لأن الرسول لا يتحرك من حالةٍ شخصية في ما يريد أن يتقدم فيه أو يتأخر ،أو في ما يعمل عليه من جمع الناس من حوله ،بل يتحرك من موقع رساليّ يتصل بحياة الآخرين من ناحيةٍ فكريةٍ وعمليّةٍ ،فهو لا يحسّ بمشكلة الفراغ أو الامتلاء من ناحيةٍ ذاتية ،فقد حسم المسألة قبل ذلك مع نفسه ،باعتبار أنَّ الصلة بالله هي أساس القوّة ،وقاعدة الاكتفاء ،حيال ما يواجهونه به من عنتٍ أو اضطهاد ،ومن ترحيب وانتصار في كلمته المعبرّة «إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي » أو في ما حدثنا الله عنه في ليلة الهجرة:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [ التوبة:40] كما أنّ الله قد حسم القضية معهم في خطابه المواسي لرسوله:{فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بَِايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [ الأنعام: 33] .
ولكنهم يهلكون أنفسهم ،لأنهم يتلاعبون بمصيرهم في الدنيا والآخرة عندما يتلاعبون بالألفاظ التي يثيرونها ،والأجواء التي يعقِّدونها ،فيبتعدون بذلك عما يصلح شأنهم ويعمِّق إنسانيتهم ويرفع مستواهم الفكري والعملي ،في ما تدعو إليه الرسالة أو في ما تحقّقه للحياة وللإنسان ،{وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} لأن حالة الاستعلاء والخيلاء والعبث واللامبالاة قد حجبت عنهم وضوح الرؤية للأشياء ،فلم يمّيزوا بين حالة الإشراق وحالة الظلام ،وبين مواقع الخير ومواقع الشرّ ،فهلكوا وهم لا يشعرون وضلوا وهم لا يعلمون .
استيحاء الآيات
وربما نستوحي من ذلك أن على العاملين في سبيل الدعوة إلى الله أن يواجهوا الجماعات المضادّة التي تريد إثارة الغبار في طريق الدعوة ،من خلال أجواء اللاّمبالاة التي يتصرفون بها تجاه الدعاة ،أو أساليب الاحتقار والتوهين في حديثهم عن الإسلام وعن القرآن وآياته ،أو محاولة إبعاد الناس عن الدعوة بمختلف الوسائل .
إن عليهم مواجهة ذلك بالطريقة الفضلى بالمزيد من مواقف القوة والثقة بالنفس ،والتحدي لهم بمختلف الأساليب ،تماماً كما كان النبي محمد( ص ) في حركته في الدعوة في خط المواجهة ،لأن هؤلاء لا يريدون إلا إضعاف روحيّة الداعية وإسقاط موقفه ،وإنزال الهزيمة النفسية به ،وإثارة الضباب حوله ،ما يفرض الوقوف أمامهم بالقوة الرسالية ،والصمود الحركي في ذلك كله .