ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم فقال:{ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم} .
والخبال:الفساد والاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم ، فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف ، قال ابن عباس:{ ما زادوكم إلا خبالا} ، عجزا و جبنا . يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم ، وتعظيمهم في صدورهم ، ثم قال{ ولأوضعوا خلالكم} أي:أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد .
قال ابن عباس رضي الله عنهما:يريد أضعفوا شجاعتكم ، يعني بالتفريق بينهم ، لتفريق الكلمة فيجبنوا عن لقاء العدو ، وقال الحسن:لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين ، وقال الكلبي:ساروا بينكم يبغونكم العيب ، قال لبيد:
أرانا موضعين لختم عيب *** وسحر بالطعام وبالشراب
أي مسرعين . ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
يتألهن بالعرفان لما عرفتني *** وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
أي أسرع حتى كلت مطيته{ يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} [ التوبة:47] .
قال قتادة:وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم ، وقال ابن إسحاق:وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم ، ومعناه على هذا القول:وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم .
قلت:تتضمن{ سماعون} معنى مستجيبين . وقال مجاهد وابن زيد والكلبي:المعنى وفيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم ، أي جواسيس والقول هو الأول . كما قال تعالى:{ سماعون للكذب} [ المائدة:41] أي قابلون له ، ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين ، فان النافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ، ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم ، ويجالسونهم ، ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم . فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها . وأرصد بينهم عيونا له ، فالقول قول قتادة وابن إسحاق والله أعلم .
فإن قيل:انبعاثهم إلى طاعته له ، فكيف يكرهها ؟ وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة ، إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم محبوبا له ، فكيف يعاقبهم عليه ؟
قيل:هذا سؤال له شأن ، وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب ، وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم .
فالجبرية:تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح ، وكل ممكن فهو جائز عليه ، ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء .
وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل .
والقدرية:تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم ، بل هم منعوا أنفسهم ، وثبطوها عن الخروج ، وفعلوا ما لا يريد . ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله صلى الله عليه وسلم .
قالوا:وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة ، من غيره أن يكره هو سبحانه انبعاثهم ، فإنه أمرهم به .
قالوا:وكيف يأمرهم بما يكرهه ، ولا يخفى على من نور الله بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القرآن .
فالجواب الصحيح:أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره واتباعا لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة له وللمؤمنين ، وأحب لك منهم ورضيه لهم دينا ، وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا الوجه ، بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه ، ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه ، فكان مكروها له من هذا الوجه ، ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أو يساءه ، وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه له ، فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه ، لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه .
وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة ، حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه ولم يرضه منهم ، وهذا الخروج المكروه له ضدان:
أحدهما:الخروج المرضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه .
والثاني:التخلف عن رسوله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الغزو معه ، وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا . وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذا الضد .
فنقول للسائل:قعودهم مبغوض له ، ولكن هاهنا أمران مكروهان له سبحانه .
وأحدهما:أكره له من الآخر ؛ لأنه أعظم مفسدة . فإن قعودهم مكروه له ، وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه ، ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه ، فإن مفسدة قعودهم تختص بهم ، ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين فتأمل هذا الموضع .
فإن قلت:فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه ، وهو الذي خرج عليه المؤمنون ؟
قلت:قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارا ، وأن حكمته سبحانه ، تأبى أن يضع التوفيق في غير محله ، وعند غير أهله ، فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله ، وليس كل محل يصلح لذلك ، ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته .
فإن قلت:وعلى ذلك فهلا جعل المحال كلها صالحة .
قلت:يأباه كمال ربوبيته وملكه ، وظهور آثار أسمائه وصفاته في الخلق والأمر ، وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له ، فإنه يحب أن يذكر ويشكر ويطاع ويوحد ويعبد ، ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان ، وهو محبته لجهاد أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم وتخصيصهم بفضله ، وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه ، وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه ، وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ، ولو تناهوا في العلم والمعرفة ، إلى الإحاطة بها ، ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر .