وقوله ( إنا مكنا له في الأرض ) أي:أعطيناه ملكا عظيما متمكنا ، فيه له من جميع ما يؤتى الملوك ، من التمكين والجنود ، وآلات الحرب والحصارات ؛ ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض ، ودانت له البلاد ، وخضعت له ملوك العباد ، وخدمته الأمم ، من العرب والعجم ؛ ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين ؛ لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها .
وقوله:( وآتيناه من كل شيء سببا ):قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم:يعني علما .
وقال قتادة أيضا في قوله:( وآتيناه من كل شيء سببا ) قال:منازل الأرض وأعلامها .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله:( وآتيناه من كل شيء سببا ) قال:تعليم الألسنة ، كان لا يغزو قوما إلا كلمهم بلسانهم .
وقال ابن لهيعة:حدثني سالم بن غيلان ، عن سعيد بن أبي هلال ؛ أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار:أنت تقول:إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا ؟ فقال له كعب:إن كنت قلت ذلك ، فإن الله تعالى قال:( وآتيناه من كل شيء سببا ) .
وهذا الذي أنكره معاوية ، رضي الله عنه ، على كعب الأحبار هو الصواب ، والحق مع معاوية في الإنكار ؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب:"إن كنا لنبلو عليه الكذب "يعني:فيما ينقله ، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحيفته ، ولكن الشأن في صحيفته ، أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق ولا حاجة لنا مع خبر الله ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم] إلى شيء منها بالكلية ، فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض . وتأويل كعب قول الله:( وآتيناه من كل شيء سببا ) واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحيفته من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق ؛ فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك ، ولا إلى الترقي في أسباب السماوات . وقد قال الله في حق بلقيس:( وأوتيت من كل شيء ) [ النمل:23] أي:مما يؤتى مثلها من الملوك ، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب ، أي:الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء ، وكبت ملوك الأرض ، وإذلال أهل الشرك . قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببا ، والله أعلم .
وفي "المختارة "للحافظ الضياء المقدسي ، من طريق قتيبة ، عن أبي عوانة عن سماك بن حرب ، عن حبيب بن حماز قال:كنت عند علي ، رضي الله عنه ، وسأله رجل عن ذي القرنين:كيف بلغ المشارق والمغارب ؟ فقال سبحان الله سخر له السحاب ، وقدر له الأسباب ، وبسط له اليد .