وقوله:( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ):يقول تعالى مخبرا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:أنه ما علمه الشعر ، ( وما ينبغي له ) أي:وما هو في طبعه ، فلا يحسنه ولا يحبه ، ولا تقتضيه جبلته ; ولهذا ورد أنه ، عليه الصلاة والسلام ، كان لا يحفظ بيتا على وزن منتظم ، بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه .
وقال أبو زرعة الرازي:حدثت عن إسماعيل بن مجالد ، عن أبيه ، عن الشعبي أنه قال:ما ولد عبد المطلب ذكرا ولا أنثى إلا يقول الشعر ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكره ابن عساكر في ترجمة "عتبة بن أبي لهب "الذي أكله السبع بالزرقاء .
قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن الحسن - هو البصري - قال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا
فقال أبو بكر:يا رسول الله:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
قال أبو بكر ، أو عمر:أشهد أنك رسول الله ، يقول الله:( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) .
وهكذا روى البيهقي في الدلائل:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:للعباس بن مرداس السلمي:"أنت القائل:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة ". 50 فقال:إنما هو:"بين عيينة والأقرع "فقال:"الكل سواء ".
يعني:في المعنى ، صلوات الله وسلامه عليه .
وقد ذكر السهيلي في "الروض الأنف "لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في كلامه ، عليه السلام ، في هذا البيت مناسبة أغرب فيها ، حاصلها شرف الأقرع بن حابس على عيينة بن بدر الفزاري ; لأنه ارتد أيام الصديق ، بخلاف ذاك ، والله أعلم .
وهكذا روى الأموي في مغازيه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر ، وهو يقول:"نفلق هاما . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ".
فيقول الصديق رضي الله عنه متمما للبيت:
. . . . . من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وهذا لبعض شعراء العرب في قصيدة له ، وهي في الحماسة .
وقال الإمام أحمد:حدثنا هشيم ، حدثنا مغيرة ، عن الشعبي ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر ، تمثل فيه ببيت طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وهكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة "من طريق إبراهيم بن مهاجر ، عن الشعبي ، عنها . ورواه الترمذي والنسائي أيضا من حديث المقدام بن شريح بن هانئ ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، كذلك . ثم قال الترمذي . هذا حديث حسن صحيح .
وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أسامة ، عن زائدة ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ثم قال:رواه غير زائدة ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن عائشة .
وهذا في شعر طرفة بن العبد ، في معلقته المشهورة ، وهذا المذكور [ هو عجز بيت] منها ، أوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له بتاتا ولم تضرب له وقت موعد
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي:أخبرنا أبو عبد الحافظ ، حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم - وكيل المتقي ببغداد - حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير ، حدثنا علي بن عمرو الأنصاري ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت:ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط ، إلا بيتا واحدا .
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما يقال لشيء كان إلا تحققا
سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي عن هذا الحديث ، فقال:هو منكر . ولم يعرف شيخ الحاكم ، ولا الضرير .
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة:قيل لعائشة:هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت:كان أبغض الحديث إليه ، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس ، فيجعل أوله آخره ، وآخره أوله . فقال أبو بكر ليس هكذا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي ". رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وهذا لفظه .
وقال معمر عن قتادة:بلغني أن عائشة سئلت:هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ فقالت:لا إلا بيت طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول:"من لم تزود بالأخبار ". فقال أبو بكر:ليس هذا هكذا . فقال:"إني لست بشاعر ، ولا ينبغي لي "
وثبت في الصحيحين أنه ، عليه الصلاة والسلام ، تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة ، ولكن تبعا لقول أصحابه ، فإنهم يرتجزون وهم يحفرون ، فيقولون:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع صوته بقوله:"أبينا "ويمدها . وقد روي هذا بزحاف في الصحيح أيضا . وكذلك ثبت أنه قال يوم حنين وهو راكب البغلة ، يقدم بها في نحور العدو:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
لكن قالوا:هذا وقع اتفاقا من غير قصد لوزن شعر ، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه .
وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد الله قال:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فنكبت أصبعه ، فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
وسيأتي عند قوله تعالى:( إلا اللمم ) [ النجم:32] إنشاد:
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما
وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما علم شعرا ولا ينبغي له ; فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) [ فصلت:42] . وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش ، ولا كهانة ، ولا مفتعل ، ولا سحر يؤثر ، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال . وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعا وشرعا ، كما رواه أبو داود قال:
حدثنا عبيد الله بن عمر ، حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا شرحبيل بن يزيد المعافري ، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال:سمعت عبد الله بن عمرو يقول:[ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول]:ما أبالي ما أوتيت إن أنا شربت ترياقا ، أو تعلقت تميمة ، أو قلت الشعر من قبل نفسي ". تفرد به أبو داود .
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن الأسود بن شيبان ، عن أبي نوفل قال:سألت عائشة:أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسامع عنده الشعر ؟ فقالت:كان أبغض الحديث إليه . وقال عن عائشة:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء ، ويدع ما بين ذلك .
وقال أبو داود:حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ، خير له من أن يمتلئ شعرا ". تفرد به من هذا الوجه ، وإسناده على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
وقال الإمام أحمد:حدثنا بريد ، حدثنا قزعة بن سويد الباهلي ، عن عاصم بن مخلد ، عن أبي الأشعث ، الصنعاني ( ح ) وحدثنا الأشيب فقال:عن ابن عاصم ، عن [ أبي] الأشعث عن شداد بن أوس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة ، لم تقبل له صلاة تلك الليلة ".
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة . والمراد بذلك نظمه لا إنشاده ، والله أعلم . على أن الشعر فيه ما هو مشروع ، وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام ، كحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، وأمثالهم وأضرابهم ، رضي الله عنهم أجمعين . ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب ، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية ، ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"آمن شعره وكفر قلبه ". وقد أنشد بعض الصحابة منه للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت ، يقول عقب كل بيت:"هيه ". يعني يستطعمه ، فيزيده من ذلك .
وقد روى أبو داود من حديث أبي بن كعب ، وبريدة بن الحصيب ، وعبد الله بن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن من البيان سحرا ، وإن من الشعر حكما ".
ولهذا قال تعالى:( وما علمناه الشعر ) يعني:محمدا صلى الله عليه وسلم ما علمه الله شعرا ، ( وما ينبغي له ) أي:وما يصلح له ، ( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) أي:ما هذا الذي علمناه ، ( إلا ذكر وقرآن مبين ) أي:بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره . ولهذا قال: