وقوله:( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ) ، هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها ، وكانت ليلة الإسراء . وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الإسراء بطرقها وألفاظها في أول سورة "سبحان "بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وتقدم أن ابن عباس رضي الله عنهما ، كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء ، ويستشهد بهذه الآية . وتابعه جماعة من السلف والخلف ، وقد خالفه جماعات من الصحابة ، رضي الله عنهم ، والتابعين وغيرهم .
وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، عن ابن مسعود في هذه الآية:( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) ، قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"رأيت جبريل وله ستمائة جناح ، ينتثر من ريشه التهاويل:الدر والياقوت ". وهذا إسناد جيد قوي .
وقال أحمد أيضا:حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا شريك ، عن جامع بن أبي راشد ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال:رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأفق:يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم ". إسناده حسن أيضا .
وقال أحمد أيضا:حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حسين ، حدثني عاصم بن بهدلة قال:سمعت شقيق بن سلمة يقول:سمعت ابن مسعود يقول قال:رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"رأيت جبريل على سدرة المنتهى وله ستمائة جناح "سألت عاصما عن الأجنحة فأبى أن يخبرني . قال:فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب . وهذا أيضا إسناد جيد .
وقال أحمد:حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا حسين ، حدثني عاصم بن بهدلة ، حدثني شقيق قال:سمعت ابن مسعود يقول:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أتاني جبريل عليه السلام ، في خضر معلق به الدر ". إسناده جيد أيضا .
وقال الإمام أحمد:حدثني يحيى عن إسماعيل ، حدثنا عامر قال:أتى مسروق عائشة فقال:يا أم المؤمنين ، هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل ؟ قالت:سبحان الله لقد قف شعري لما قلت ، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب:من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) [ الأنعام:103] ، ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ) [ الشورى:51] ، ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت:( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ) الآية [ لقمان:34] ، ومن أخبرك أن محمدا قد كتم ، فقد كذب ، ثم قرأت:( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) [ المائدة:67] ، ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين .
وقال أحمد أيضا:حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق قال:كنت عند عائشة فقلت:أليس الله يقول:( ولقد رآه بالأفق المبين ) [ التكوير:23] ، ( ولقد رآه نزلة أخرى ) فقالت:أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها ، فقال:"إنما ذاك جبريل ". لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين ، رآه منهبطا من السماء إلى الأرض ، سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث الشعبي به .
رواية أبي ذر ، قال الإمام أحمد:حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن عبد الله بن شقيق قال:قلت لأبي ذر:لو رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسألته . قال:وما كنت تسأله ؟ قال:كنت أسأله:هل رأى ربه عز وجل ؟ فقال:إني قد سألته فقال:"قد رأيته ، نورا أنى أراه ".
هكذا وقع في رواية الإمام أحمد ، وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين فقال:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي ذر قال:سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:هل رأيت ربك ؟ فقال:"نور أنى أراه ".
وقال:حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق قال:قلت لأبي ذر:لو رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسألته . فقال:عن أي شيء كنت تسأله ؟ قال:قلت:كنت أسأله:هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر:قد سألت فقال:"رأيت نورا ".
وقد حكى الخلال في "علله "أن الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث فقال:ما زلت منكرا له ، وما أدري ما وجهه .
وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عون الواسطي ، أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال:رآه بقلبه ، ولم يره بعينه .
وحاول ابن خزيمة أن يدعي انقطاعه بين عبد الله بن شقيق وبين أبي ذر ، وأما ابن الجوزي فتأوله على أن أبا ذر لعله سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الإسراء ، فأجابه بما أجابه به ، ولو سأله بعد الإسراء لأجابه بالإثبات . وهذا ضعيف جدا ، فإن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، قد سألت عن ذلك بعد الإسراء ، ولم يثبت لها الرؤية . ومن قال:إنه خاطبها على قدر عقلها ، أو حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه - كابن خزيمة في كتاب التوحيد - فإنه هو المخطئ ، والله أعلم .
وقال النسائي:حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشام ، عن منصور ، عن الحكم ، عن يزيد بن شريك ، عن أبي ذر قال:رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه بقلبه ، ولم يره ببصره .
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن علي بن مسهر ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال في قوله:( ولقد رآه نزلة أخرى ) ، قال:رأى جبريل عليه السلام .
وقال مجاهد في قوله:( ولقد رآه نزلة أخرى ) قال:رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل في صورته مرتين ، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس ، وغيرهم .