يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء السابقين أنهم ) ثلة ) أي:جماعة ( من الأولين وقليل من الآخرين ) . وقد اختلفوا في المراد بقوله:( الأولين ) ، و ) الآخرين ) . فقيل:المراد بالأولين:الأمم الماضية ، والآخرين:هذه الأمة . هذا رواية عن مجاهد ، والحسن البصري ، رواها عنهما ابن أبي حاتم . وهو اختيار ابن جرير ، واستأنس بقوله - صلى الله عليه وسلم -:"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ". ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد .
ومما يستأنس به لهذا القول ، ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ، حدثنا شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال:لما نزلت:( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) شق ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت:( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، ثلث أهل الجنة ، بل أنتم نصف أهل الجنة - أو:شطر أهل الجنة - وتقاسمونهم النصف الثاني ".
ورواه الإمام أحمد ، عن أسود بن عامر ، عن شريك ، عن محمد ، بياع الملاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، فذكره . وقد روي من حديث جابر نحو هذا ، ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق هشام بن عمار:حدثنا عبد ربه بن صالح ، عن عروة بن رويم ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:لما نزلت:( فيومئذ وقعت الواقعة ) ، ذكر فيها ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) ، قال عمر:يا رسول الله ، ثلة من الأولين وقليل منا ؟ قال:فأمسك آخر السورة سنة ، ثم نزل:( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"يا عمر ، تعال فاسمع ما قد أنزل الله:( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) ، ألا وإن من آدم إلي ثلة ، وأمتي ثلة ، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل ، ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ".
هكذا أورده في ترجمة "عروة بن رويم "، إسنادا ومتنا ، ولكن في إسناده نظر . وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله - صلى الله عليه وسلم -:"إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة "الحديث بتمامه ، وهو مفرد في "صفة الجنة "ولله الحمد والمنة . وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا فيه نظر ، بل هو قول ضعيف ; لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن ، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها ، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة . والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم ، والله أعلم . فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح ، وهو أن يكون المراد بقوله:( ثلة من الأولين ) أي:من صدر هذه الأمة ، ( وقليل من الآخرين ) أي:من هذه الأمة .
قال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا عبد الله بن بكر المزني ، سمعت الحسن:أتى على هذه الآية:( والسابقون السابقون أولئك المقربون ) فقال:أما السابقون ، فقد مضوا ، ولكن اللهم اجعلنا من أهل اليمين .
ثم قال:حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا السري بن يحيى قال:قرأ الحسن:( والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين ) ثلة ممن مضى من هذه الأمة .
وحدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري ، حدثنا أبو هلال ، عن محمد بن سيرين ، أنه قال في هذه الآية:( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) قال:كانوا يقولون ، أو يرجون ، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة . فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة . ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها ، فيحتمل أن يعم الأمر جميع الأمم كل أمة بحسبها ; ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم "الحديث بتمامه .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا زياد أبو عمر ، عن الحسن ، عن عمار بن ياسر ، قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"مثل أمتي مثل المطر ، لا يدرى أوله خير أم آخره "، فهذا الحديث بعد الحكم بصحة إسناده ، محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم ، كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها ، وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها ، والفضل للمتقدم . وكذلك الزرع الذي يحتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني ، ولكن العمدة الكبرى على الأول ، واحتياج الزرع إليه آكد ، فإنه لولاه ما نبت في الأرض ، ولا تعلق أساسه فيها ; ولهذا قال عليه السلام:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم إلى قيام الساعة ". وفي لفظ:"حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ". والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم ، والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها . ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب . وفي لفظ:"مع كل ألف سبعون ألفا ". وفي آخر "مع كل واحد سبعون ألفا ".
وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا هشام بن مرثد الطبراني ، حدثنا محمد - هو ابن إسماعيل بن عياش - حدثني أبي ، حدثني ضمضم - يعني ابن زرعة - عن شريح - هو ابن عبيد - عن أبي مالك ، قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أما والذي نفسي بيده ، ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض ، تقول الملائكة:لما جاء مع محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما جاء مع الأنبياء ، عليهم السلام ".
وحسن أن يذكر هاهنا [ عند قوله:( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين )] الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في "دلائل النبوة "حيث قال:أخبرنا أبو نصر بن قتادة ، أخبرنا أبو عمرو بن مطر ، حدثنا جعفر - [ هو] ابن محمد بن المستفاض الفريابي - حدثني أبو وهب الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله بن مسرح الحراني ، حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني ، عن مسلمة بن عبد الله الجهني ، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي ، عن ابن زمل الجهني - رضي الله عنه - قال:كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح قال ، وهو ثان رجله:"سبحان الله وبحمده . أستغفر الله ، إن الله كان توابا "سبعين مرة ، ثم يقول:"سبعين بسبعمائة ، لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة ". ثم يقول ذلك مرتين ، ثم يستقبل الناس بوجهه ، وكان يعجبه الرؤيا ، ثم يقول:"هل رأى أحد منكم شيئا ؟ "قال ابن زمل:فقلت:أنا يا رسول الله . فقال:"خير تلقاه ، وشر توقاه ، وخير لنا ، وشر على أعدائنا ، والحمد لله رب العالمين . اقصص رؤياك ". فقلت:رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لاحب ، والناس على الجادة منطلقين ، فبينما هم كذلك ، إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله ، يرف رفيفا يقطر ماؤه ، فيه من أنواع الكلأ قال:وكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبروا ، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق ، فلم يظلموه يمينا ولا شمالا . قال:فكأني أنظر إليهم منطلقين . ثم جاءت الرعلة الثانية وهم أكثر منهم أضعافا ، فلما أشفوا على المرج كبروا ، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق ، فمنهم المرتع ، ومنهم الآخذ الضغث . ومضوا على ذلك . قال:ثم قدم عظم الناس ، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا:( هذا خير المنزل ) . كأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا فلما رأيت ذلك ، لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج ، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة ، وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى ، إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طولا وإذا عن يسارك رجل ربعة باذ كثير خيلان الوجه ، كأنما حمم شعره بالماء ، إذا هو تكلم أصغيتم إكراما له . وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقا ووجها ، كلكم تؤمونه تريدونه ، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف ، وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها . قال:فامتقع لون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة ثم سري عنه ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أما ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللاحب ، فذاك ما حملتم عليه من الهدى وأنتم عليه . وأما المرج الذي رأيت ، فالدنيا مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء ، ولم تتعلق منا ، ولم نردها ولم تردنا . ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا ، فمنهم المرتع ، ومنهم الآخذ الضغث ، ونجوا على ذلك . ثم جاء عظم الناس ، فمالوا في المرج يمينا وشمالا فإنا لله وإنا إليه راجعون . وأما أنت ، فمضيت على طريقة صالحة ، فلن تزال عليها حتى تلقاني . وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة ، فالدنيا سبعة آلاف سنة ، أنا في آخرها ألفا . وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشثل ، فذلك موسى عليه السلام ، إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه . والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه ، كأنما حمم شعره بالماء ، فذلك عيسى ابن مريم ، نكرمه لإكرام الله إياه . وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها فذاك أبونا إبراهيم ، كلنا نؤمه ونقتدي به . وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها فهي الساعة ، علينا تقوم ، لا نبي بعدي ، ولا أمة بعد أمتي ". قال:فما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل ، فيحدثه بها متبرعا .