يقول تعالى:وكما جعلنا لك - يا محمد - أعداء يخالفونك ، ويعادونك جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يهيدنك ذلك ، كما قال تعالى:( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك ) [ آل عمران:184] ، وقال تعالى:( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ) [ الأنعام:34] ، وقال تعالى:( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ) [ فصلت:43] ، وقال تعالى:( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ) [ الفرقان:43] . وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي .
وقوله:( شياطين الإنس والجن ) بدل من ) عدوا ) أي:لهم أعداء من شياطين الإنس والجن ، ومن هؤلاء وهؤلاء ، قبحهم الله ولعنهم .
قال عبد الرزاق:أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله تعالى ( شياطين الإنس والجن ) قال:من الجن شياطين ، ومن الإنس شياطين ، يوحي بعضهم إلى بعض ، قال قتادة:وبلغني أن أبا ذر كان يوما يصلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"تعوذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن "فقال:أو إن من الإنس شياطين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم ".
وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال ابن جرير:
حدثنا المثنى ، حدثنا أبو صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة ، عن ابن عائذ ، عن أبي ذر قال:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس ، قال ، فقال:"يا أبا ذر ، هل صليت؟ "قال:لا يا رسول الله . قال:"قم فاركع ركعتين "قال:ثم جئت فجلست إليه ، فقال:"يا أبا ذر ، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟ "قال:قلت:لا يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين؟ قال:"نعم ، هم شر من شياطين الجن "
وهذا أيضا فيه انقطاع وروي متصلا كما قال الإمام أحمد:
حدثنا وكيع ، حدثنا المسعودي ، أنبأني أبو عمر الدمشقي ، عن عبيد بن الخشخاش ، عن أبي ذر قال:أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ، فجلست فقال:"يا أبا ذر هل صليت؟ "قلت:لا . قال:"قم فصل "قال:فقمت فصليت ، ثم جلست فقال:"يا أبا ذر ، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن "قال:قلت يا رسول الله ، وللإنس شياطين؟ قال:"نعم ". وذكر تمام الحديث بطوله .
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره ، من حديث جعفر بن عون ، ويعلى بن عبيد ، وعبيد الله بن موسى ، ثلاثتهم عن المسعودي ، به .
طريق أخرى عن أبي ذر:قال ابن جرير:حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج ، حدثنا حماد ، عن حميد بن هلال ، حدثني رجل من أهل دمشق ، عن عوف بن مالك ، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا أبا ذر ، هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ "قال:قلت يا رسول الله ، هل للإنس من شياطين؟ قال:"نعم ".
طريق أخرى للحديث:قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا معان بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا ذر تعوذت من شياطين الجن والإنس؟ "قال:يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين؟ قال:"نعم ، شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا "
فهذه طرق لهذا الحديث ، ومجموعها يفيد قوته وصحته ، والله أعلم .
وقد روى ابن جرير:حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو نعيم ، عن شريك ، عن سعيد بن مسروق ، عن عكرمة:( شياطين الإنس والجن ) قال:ليس من الإنس شياطين ، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس ، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن .
قال:وحدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا إسرائيل ، عن السدي ، عن عكرمة في قوله:( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) قال:للإنسي شيطان ، وللجني شيطان فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن ، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا .
وقال أسباط ، عن السدي ، عن عكرمة في قوله:( يوحي بعضهم إلى بعض ) في تفسير هذه الآية:أما شياطين الإنس ، فالشياطين التي تضل الإنس ، وشياطين الجن الذين يضلون الجن ، يلتقيان ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه:إني أضللت صاحبي بكذا وكذا ، فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا ، فيعلم بعضهم بعضا .
ففهم ابن جرير من هذا; أن المراد بشياطين الإنس عند عكرمة والسدي:الشياطين من الجن الذين يضلون الناس ، لا أن المراد منه شياطين الإنس منهم . ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عكرمة ، وأما كلام السدي فليس مثله في هذا المعنى ، وهو محتمل ، وقد روى ابن أبي حاتم نحو هذا ، عن ابن عباس من رواية الضحاك ، عنه ، قال:إن للجن شياطين يضلونهم - مثل شياطين الإنس يضلونهم ، قال:فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن ، فيقول هذا لهذا:أضلله بكذا ، أضلله بكذا . فهو قوله:( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) .
وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر:إن للإنس شياطين منهم ، وشيطان كل شيء مارده ، ولهذا جاء في صحيح مسلم ، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الكلب الأسود شيطان "ومعناه - والله أعلم -:شيطان في الكلاب .
وقال ابن جريج:قال مجاهد في تفسير هذه الآية:كفار الجن شياطين ، يوحون إلى شياطين الإنس ، كفار الإنس ، زخرف القول غرورا .
وروى ابن أبي حاتم ، عن عكرمة قال:قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني حتى كاد يتعاهد مبيتي بالليل ، قال:فقال لي:اخرج إلى الناس فحدث الناس . قال:فخرجت ، فجاء رجل فقال:ما تقول في الوحي؟ فقلت:الوحي وحيان ، قال الله تعالى:( بما أوحينا إليك هذا القرآن ) [ يوسف:3] ، وقال الله تعالى:( شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) قال:فهموا بي أن يأخذوني ، فقلت:ما لكم ذاك ، إني مفتيكم وضيفكم . فتركوني .
وإنما عرض عكرمة بالمختار - وهو ابن أبي عبيد - قبحه الله ، وكان يزعم أنه يأتيه الوحي ، وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر وكانت من الصالحات ، ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه قال:صدق ، قال الله تعالى:( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) [ الأنعام:121] ، وقوله تعالى:( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) أي:يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف ، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره .
( ولو شاء ربك ما فعلوه ) أي:وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء .
( فذرهم ) أي:فدعهم ، ( وما يفترون ) أي:يكذبون ، أي:دع أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم ، فإن الله كافيك وناصرك عليهم .