ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله:( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )
وقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال:أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتنا وأنا صبي قال:فذهبت لأخرج لألعب ، فقالت أمي:يا عبد الله:تعال أعطك . فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"وما أردت أن تعطيه ؟ ". قالت:تمرا . فقال:"أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة "
وذهب الإمام مالك ، رحمه الله ، إلى أنه إذا تعلق بالوعد غرم على الموعود وجب الوفاء به ، كما لو قال لغيره:"تزوج ولك علي كل يوم كذا ". فتزوج ، وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك ، لأنه تعلق به حق آدمي ، وهو مبني على المضايقة . وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا ، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فرضية الجهاد عليهم ، فلما فرض نكل عنه بعضهم ، كقوله تعالى:( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) [ النساء:77 ، 78] . وقال تعالى:( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ) الآية [ محمد:20] وهكذا هذه الآية معناها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله:( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) قال:كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون:لوددنا أن الله - عز وجل - دلنا على أحب الأعمال إليه ، فنعمل به . فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به . فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين ، وشق عليهم أمره ، فقال الله سبحانه:( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) ؟ . وهذا اختيار ابن جرير .
وقال مقاتل بن حيان:قال المؤمنون:لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به . فدلهم الله على أحب الأعمال إليه ، فقال:( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ) فبين لهم ، فابتلوا يوم أحد بذلك ، فولوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مدبرين ، فأنزل الله في ذلك:( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) ؟ وقال:أحبكم إلي من قاتل في سبيلي .
ومنهم من يقول:أنزلت في شأن القتال ، يقول الرجل:"قاتلت "، ولم يقاتل وطعنت "ولم يطعن و "ضربت "، ولم يضرب ، و "صبرت "، ولم يصبر .
وقال قتادة ، والضحاك:نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون:"قتلنا ، ضربنا ، طعنا ، وفعلنا ". ولم يكونوا فعلوا ذلك .
وقال ابن يزيد:نزلت في قوم من المنافقين ، كانوا يعدون المسلمين النصر ، ولا يفون لهم بذلك .
وقال مالك عن زيد بن أسلم:( لم تقولون ما لا تفعلون ) ؟ ، قال:في الجهاد .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد:( لم تقولون ما لا تفعلون ) إلى قوله:( كأنهم بنيان مرصوص ) فما بين ذلك:في نفر من الأنصار ، فيهم عبد الله بن رواحة ، قالوا في مجلس:لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله ، لعملنا بها حتى نموت . فأنزل الله هذا فيهم . فقال عبد الله بن رواحة:لا أبرح حبيسا في سبيل الله حتى أموت . فقتل شهيدا .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي ، عن أبيه قال:بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه منهم ثلاثمائة رجل ، كلهم قد قرأ القرآن ، فقال . أنتم قراء أهل البصرة وخيارهم . وقال:كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات ، فأنسيناها ، غير أني قد حفظت منها:( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) فتكتب شهادة في أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة .