( فسنيسره للعسرى ) أي:لطريق الشر ، كما قال تعالى:( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ الأنعام:11] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله ، - عز وجل - يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان . وكل ذلك بقدر مقدر ، والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة:
رواية أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه:قال الإمام أحمد:حدثنا علي بن عياش ، حدثني العطاف بن خالد ، حدثني رجل من أهل البصرة ، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، عن أبيه قال:سمعت أبي يذكر أن أباه سمع أبا بكر وهو يقول:قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:يا رسول الله ، أنعمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف ؟ قال:"بل على أمر قد فرغ منه ". قال:ففيم العمل يا رسول الله ؟ قال:"كل ميسر لما خلق له ".
رواية علي ، رضي الله عنه:قال البخاري ، حدثنا أبو نعيم:حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب قال:كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بقيع الغرقد في جنازة ، فقال:"ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ". فقالوا:يا رسول الله ، أفلا نتكل ؟ فقال:"اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له ". قال:ثم قرأ:( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ) إلى قوله:( للعسرى ) .
وكذا رواه من طريق شعبة ووكيع ، عن الأعمش ، بنحوه ثم رواه عن عثمان بن أبي شيبة ، عن جرير ، عن منصور ، عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه:كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ، ثم قال:"ما منكم من أحد - أو:ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار ، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة ". فقال رجل:يا رسول الله ، أفلا نتكل وندع العمل ؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة ، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء ؟ فقال:"أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاء فييسرون إلى عمل أهل الشقاء ". ثم قرأ:( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ) الآية .
وقد أخرجه بقية الجماعة ، من طرق ، عن سعد بن عبيدة ، به .
رواية عبد الله بن عمر:وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا شعبة عن عاصم بن عبيد الله قال:سمعت سالم بن عبد الله يحدث عن ابن عمر:قال:قال عمر:يا رسول الله ، أرأيت ما نعمل فيه ؟ أفي أمر قد فرغ أو مبتدأ أو مبتدع ؟ قال:"فيما قد فرغ منه ، فاعمل يا ابن الخطاب ، فإن كلا ميسر ، أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة ، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء ".
ورواه الترمذي في القدر ، عن بندار ، عن ابن مهدي ، به وقال:حسن صحيح .
حديث آخر من رواية جابر:قال ابن جرير:حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله أنه قال:يا رسول الله ، أنعمل لأمر قد فرغ منه ، أو لأمر نستأنفه ؟ فقال:"لأمر قد فرغ منه ". فقال سراقة:ففيم العمل إذا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"كل عامل ميسر لعمله ".
ورواه مسلم عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، به .
حديث آخر:قال ابن جرير:حدثني يونس ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن طلق بن حبيب ، عن بشير بن كعب العدوي قال:سأل غلامان شابان النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا يا رسول الله ، أنعمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، أو في شيء يستأنف ؟ فقال:"بل فيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير ". قالا ففيم العمل إذا ؟ قال:"اعملوا فكل عامل ميسر لعمله الذي خلق له ". قالا فالآن نجد ونعمل .
رواية أبي الدرداء:قال الإمام أحمد:حدثنا هيثم بن خارجة ، حدثنا أبو الربيع سليمان بن عتبة السلمي ، عن يونس بن ميسرة بن حلبس ، عن أبي إدريس ، عن أبي الدرداء قال:قالوا:يا رسول الله ، أرأيت ما نعمل ، أمر قد فرغ منه أم شيء نستأنفه ؟ قال:"بل أمر قد فرغ منه ". قالوا:فكيف بالعمل يا رسول الله ؟ قال:"كل امرئ مهيأ لما خلق له ".
تفرد به أحمد من هذا الوجه .
حديث آخر:قال ابن جرير:حدثني الحسن بن سلمة بن أبي كبشة ، حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا عباد بن راشد ، عن قتادة ، حدثني خليد العصري ، عن أبي الدرداء قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ما من يوم غربت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان بصوت يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين:اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا ". وأنزل الله في ذلك القرآن:( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن ابن أبي كبشة ، بإسناده مثله .
حديث آخر:قال ابن أبي حاتم:حدثني أبو عبد الله الطهراني ، حدثنا حفص بن عمر العداني ، حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة ، عن ابن عباس ; أن رجلا كان له نخل ، ومنها نخلة فرعها إلى دار رجل صالح فقير ذي عيال ، فإذا جاء الرجل فدخل داره وأخذ الثمر من نخلته ، فتسقط الثمرة فيأخذها صبيان الفقير فنزل من نخلته فنزع الثمرة من أيديهم ، وإن أدخل أحدهم الثمرة في فمه أدخل أصبعه في حلق الغلام ونزع الثمرة من حلقه . فشكا ذلك الرجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بما هو فيه من صاحب النخلة ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:"اذهب ". ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب النخلة ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:"أعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة "فقال له:لقد أعطيت ، ولكن يعجبني ثمرها ، وإن لي لنخلا كثيرا ما فيها نخلة أعجب إلي ثمرة من ثمرها . فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - فتبعه رجل كان يسمع الكلام من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صاحب النخلة . فقال الرجل:يا رسول الله ، إن أنا أخذت النخلة فصارت لي النخلة فأعطيتها أتعطيني بها ما أعطيته بها نخلة في الجنة ؟ قال:"نعم ". ثم إن الرجل لقي صاحب النخلة ، ولكلاهما نخل ، فقال له:أخبرك أن محمدا ، [ قد] أعطاني بنخلتي المائلة في دار فلان نخلة في الجنة ، فقلت ، له:قد أعطيت ولكن يعجبني ثمرها . فسكت عنه الرجل ، فقال له:أتراك إذا بعتها ؟ قال:لا إلا أن أعطى بها شيئا ، ولا أظنني أعطاه . قال:وما مناك بها ؟ قال:أربعون نخلة . فقال الرجل:لقد جئت بأمر عظيم ، نخلتك تطلب بها أربعين نخلة ؟! ثم سكتا وأنشأ في كلام [ آخر] ثم قال:أنا أعطيتك أربعين نخلة ، فقال:أشهد لي إن كنت صادقا . فأمر بأناس فدعاهم فقال:اشهدوا أني قد أعطيته من نخلي أربعين نخلة بنخلته التي فرعها في دار فلان ابن فلان . ثم قال:ما تقول ؟ فقال صاحب النخلة:قد رضيت . ثم قال بعد:ليس بيني وبينك بيع لم نفترق قال له:قد أقالك الله ، ولست بأحمق حين أعطيتك أربعين نخلة بنخلتك المائلة . فقال صاحب النخلة:قد رضيت على أن تعطيني الأربعين على ما أريد . قال:تعطينيها على ساق . ثم مكث ساعة ، ثم قال:هي لك على ساق وأوقف له شهودا وعد له أربعين نخلة على ساق ، فتفرقا ، فذهب الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:يا رسول الله ، إن النخلة المائلة في دار فلان قد صارت لي ، فهي لك . فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرجل صاحب الدار فقال له:"النخلة لك ولعيالك ". قال عكرمة:قال ابن عباس:فأنزل الله - عز وجل -:( والليل إذا يغشى ) إلى قوله:( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) إلى آخر السورة .
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، وهو حديث غريب جدا .
قال ابن جرير:وذكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه:حدثني هارون بن إدريس الأصم ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال:كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة ، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه:أي بني ، أراك تعتق أناسا ضعفاء ، فلو أنك تعتق رجالا جلداء يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك ؟! فقال:أي أبت ، إنما أريد - أظنه قال - ما عند الله:قال:فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية أنزلت فيه:( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ) .