القول في تأويل قوله تعالى:فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:فهلا كان من القرون الذين قصصت عليك نبأهم في هذه السورة ، الذين أهلكتهم بمعصيتهم إياي ، وكفرهم برسلي (64) من قبلكم.(أولو بقية) ، يقول:ذو بقية من الفهم والعقل، (65) يعتبرون مواعظَ الله ويتدبرون حججه، فيعرفون ما لهم في الإيمان بالله ، وعليهم في الكفر به (66)، (ينهون عن الفساد في الأرض) ، يقول:ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم ، وأهل الكفر بالله عن كفرهم به ، في أرضه (67)، (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، يقول:لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ، إلا يسيرًا، فإنهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض، فنجاهم الله من عذابه، حين أخذ من كان مقيمًا على الكفر بالله عذابُه،وهم اتباع الأنبياء والرسل.
* * *
ونصب "قليلا "لأن قوله:(إلا قليلا) استثناء منقطع مما قبله، كما قال:إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا، [سورة يونس:98] . وقد بينا ذلك في غير موضع ، بما أغنى عن إعادته. (68)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18690- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:اعتذر فقال:(فلولا كان من القرون من قبلكم) ، حتى بلغ:(إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، فإذا هم الذين نجوا حين نـزل عذاب الله. وقرأ:(واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه).
18691- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:(فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية) ، إلى قوله:(إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، قال:يستقلَّهم الله من كل قوم.
18692- حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال:سألني بلال عن قول الحسن في القدر، (69) قال:فقال:سمعت الحسن يقول:قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ، قال:بعث الله هودًا إلى عاد، فنجى الله هودًا والذين آمنوا معه وهلك المتمتعون. وبعث الله صالحًا إلى ثمود، فنجى الله صالحًا وهلك المتمتعون. فجعلت أستقريه الأمم، فقال:ما أراه إلا كان حسن القول في القَدر . (70)
18693- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة:(فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، أي:لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض، (إلا قليلا ممن أنجينا منهم).
* * *
وقوله:(واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، يقول تعالى ذكره:واتبع الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله ما أترفوا فيه.
*ذكر من قال ذلك:
18694- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال:قال ابن عباس:(واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، قال:ما أُنْظروا فيه.
18695- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه)، من دنياهم.
، وكأنّ هؤلاء وجَّهوا تأويل الكلام:واتبع الذين ظلموا الشيء الذي أنظرهم فيه ربُّهم من نعيم الدنيا ولذاتها، إيثارًا له على عمل الآخرة وما ينجيهم من عذاب الله.
* * *
وقال آخرون:معنى ذلك:واتبع الذين ظلَموا ما تجبَّروا فيه من الملك ، وعتَوْا عن أمر الله.
*ذكر من قال ذلك:
18696- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:(واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه)، قال:في ملكهم وتجبُّرهم، وتركوا الحق.
18697- حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه، إلا أنه قال:وتركِهم الحق.
18698- حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثل حديث محمد بن عمرو سواء.
* * *
قال أبو جعفر:وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال:إن الله أخبر تعالى ذكره:أن الذين ظلموا أنفسهم من كل أمة سلفت فكفروا بالله، اتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا ، فاستكبروا وكفروا بالله ، واتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا، فاستكبروا عن أمر الله وتجبروا وصدوا عن سبيله .
* * *
،وذلك أن المترف في كلام العرب:هو المنعم الذي قد غُذِّي باللذات، ومنه قول الراجز:(71)
نُهْــدِي رُءُوسَ المُــتْرَفينَ الصُّـدَّادْ
إلــى أمِــير المُــؤْمِنِينَ المُمْتَـادْ (72)
* * *
وقوله:(وكانوا مجرمين)، يقول:وكانوا مكتسبي الكفر بالله. (73)
--------------------
الهوامش:
(64) انظر تفسير "القرن "فيما سلف 11:263 / 15:37 .
(65) انظر تفسير "البقية "فيما سلف ص:447 - 449 .
(66) في المطبوعة والمخطوطة:"وعليهم "بإسقاط "ما "، والأجود إثباتها .
(67) انظر تفسير "الفساد في الأرض "فيما سلف من فهارس اللغة ( فسد ) .
(68) انظر فهارس مباحث العربية والنحو وغيرهما .
(69) في المطبوعة والمخطوطة هنا:"في العذر "، والصواب ما أثبت ، وانظر التعليق التالي .
(70) في المطبوعة وحدها:"في العذر ، والصواب من المخطوطة . ويعني أنه أمر قد فرغ منه ، لقول الله سبحانه لنوح:"وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم "، وذلك قبل أن يكونوا ، وهو قول أهل الإثبات ، من أهل الحق .
(71) هو رؤبة .
(72) سلف البيت وتخريجه وشرح فيما سلف 11:223 ، تعليق:1 . ، "الممتاد "، الذي نسأله العطاء فيعطي .
(73) انظر تفسير "الإجرام "فيما سلف من فهارس اللغة (جرم) .