/م116
قال:{ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض} لولا تحضيضية بمعنى هلا ، والقرون الأمم والأقوام ، والقرن في اللغة كما في المصباح: "الجيل من الناس .قيل ثمانون سنة ، وقيل سبعون ".أقول:ثم اشتهر تقديره بمائة سنة .والبقية من الشيء ما يبقى منه بعد ذهاب أكثره ، ومن الناس كذلك ، واستعمل في الخيار والأصلح والأنفع ، قيل:لأن الناس ينفقون في العادة أردأ ما عندهم وأقربه إلى التلف والفساد أولا ، ويستبقون الأجود فالأجود ، ونقول:لأن الأحياء يهلك منهم الأضعف فالأضعف أولا ويبقى الأقوى فالأقوى ، ومن هذا ما يعرف في علم الاجتماع بسنة الانتخاب الطبيعي ، وهو إفضاء تنازع الأحياء إلى بقاء الأمثل والأصلح ، كما ورد في المثل الذي ضربه الله للحق والباطل بقوله تعالى:{ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [ الرعد:17] ومن ثم يعبرون عن الخيار بالبقية يقولون:في الزوايا خبايا ، وفي الناس بقايا ، وبهذا فسرت الآية .
والمعنى:فهلا كان أي وجد من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم في الأرض جماعة أصحاب بقية من النهي والرأي والصلاح ينهونهم عن الفساد في الأرض -وهو الظلم واتباع الهوى والشهوات التي تفسد عليهم أنفسهم ومصالحهم- فيحول نهيهم إياهم دون هلاكهم ، فإن من سنتنا أن لا نهلك قوما إلا إذا عم الفساد والظلم أكثرهم كما يأتي في الآية التالية .
{ إلا قليلا ممن أنجينا منهم} أي لم يكن فيهم بقية من هؤلاء العقلاء الأخيار ، الناهين عن المنكر ، الآمرين بالمعروف ، ولكن كان هنالك قليل من الذين أنجيناهم ، أو هم الذين أنجيناهم مع الرسل منهم ، وكانوا منبوذين لا يقبل نهيهم وأمرهم ، مهددين مع رسلهم بالطرد ، والإبعاد ، بعد الأذى والاضطهاد .
{ واتبع الذين ظلموا} وهم الأكثرون منهم .{ ما أترفوا فيه} أي ما رزقناهم وآتيناهم من أسباب الترف والنعيم فبطروا .يقال:أترفته النعمة أي أبطرته وأفسدته ، والبطر الطغيان في المرح وخفة النشاط والفرح .
{ وكانوا مجرمين} أي متلبسين بالإجرام الذي ولده الترف راسخين فيه ، فكان هو المسخر لعقولهم في ترجيح ما أعطوا من ذلك على اتباع الرسل .
روى ابن مردويه في تفسيره عن أبي بن كعب قال:أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أولوا بقية وأحلام ) ، والأشبه عندي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الأحلام تفسيرا لا قرآنا .والمعنى أن العقول السليمة الرشيدة كافية لفهم ما في دعوة الرسل عليهم السلام من الخير والصلاح لو لم يمنع من استعمال هدايتها الافتتان بالترف ، والتفنن في أنواعه ، بدلا من القصد والاعتدال فيه وشكر الله المنعم به عليه ، فالإتراف هو الباعث على الإسراف والفسوق والعصيان ، والظلم والإجرام يظهر في الكبراء والرؤساء ، ويسري بالتقليد في الدهماء ، فيكون سبب الهلاك بالاستئصال ، أو فقد الاستقلال ، وذلك قوله تعالى:{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} [ الإسراء:16] فهذا بيان لسنته تعالى في الأمم قديمها وحديثها ، ولا تغني عن شعوب الإفرنج معرفتهم بهذه السنة ومحاولة اتقائهم لها ، فحكماؤهم وهم أولو البقية والأحلام الذين ينهونهم عن الفساد في الأرض يصرحون بأنهم سيهلكون كما هلك من قبلهم ، ولن تغني عنهم قوتهم ، بل تكون هي المهلكة لهم بأيديهم ، كما قال تعالى:{ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} [ الأنعام:65] فراجع تفسيرها .
ومن عجائب الجهل والغي أن متبعي الأتراف من شعوبنا يقلدون الإفرنج في الإسراف فيه دون ما به يرجو الإفرنج اتقاء الهلاك من فساده وهو القوة الحربية وفنون الصناعة ، فإذا كان فسق الأتراف يهلك الأمم القوية ، فكيف تبقى مع أتباعه وفساده الأمم الضعيفة ؟ وكيف يزول والمتبعون له هم الملوك والأمراء ، والزعماء والحكام ، والكتاب والخطباء ، وهم الأكثرون الظاهرون ، والناهون عن فسادهم الأقلون الخاملون ؟ ثم بين سنته تعالى في إهلاك الأمم وما يحول دونه بقوله:{ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}