/م116
{ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} أي وما كان من شأن ربك وسنته في الاجتماع البشري أن يهلك الأمم بظلم منه لها في حال كون أهلها مصلحين في الأرض ، مجتنبين للفساد والظلم ، وإنما أهلكهم ويهلكهم بظلمهم وإفسادهم فيها ، كما ترى في الآيات العديدة من هذه السورة وغيرها .
وفي الآية وجه آخر وهو أنه ليس من سنته تعالى أن يهلك القرى بظلم يقع فيها مع تفسير الظلم بالشرك وأهلها مصلحون في أعمالهم الاجتماعية والعمرانية ، وأحكامهم المدنية والتأديبية ، فلا يبخسون الحقوق كقوم شعيب ، ولا يرتكبون الفواحش ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر كقوم لوط ، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كقوم هود ، ولا يذلون لمتكبر جبار يستعبد الضعفاء ، كقوم فرعون ؛ بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد في الأعمال والأحكام ، وهو الظلم المدمر للعمران ، ويحتمل أن يراد أنه لا يهلكها بظلم قليل من أهلها لأنفسهم ، إذا كان الجمهور الأكبر منهم مصلحين في جل أعمالهم ومعاملاتهم للناس .أخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير بن عبد الله قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية فقال:( وأهلها ينصف بعضهم بعضا ) .وروي موقوفا على جرير رضي الله عنه ، فتنكير الظلم في هذا للتقليل والتحقير ، وفيما قبله للتعظيم ، وهو مأخوذ من قوله تعالى{ إن الشرك لظلم عظيم} [ لقمان:13] والآية تدل على أن إهلاك المصلحين ظلم فلذلك يتنزه الله عنه .
وذكر المفسرون في الوجه الثاني القول المشهور المعبر عن تجارب الناس ، وهو أن الأمم تبقى مع الكفر ، ولا تبقى مع الظلم ، والأوجه الثلاثة في الآية صحيحة ويجوز إرادتها كلها على القول بأن جميع ما يدل عليه الكلام مما شأن صاحبه أن يعلمه ، ولا يكون متعارضا في نفسه يصح أن يكون مرادا له ، وإن كان من المشترك ، أو كان بعضه حقيقة وبعضه مجازا ، ومن أركان بلاغة القرآن جمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل ، وأن يكون بعضها واضحا في هذه المعاني وبعضها خفيا يراد به أن يذهب الذهن والفكر فيه كل مذهب ، وهذا مما يتنافس فيه البلغاء .