يقول تعالى ذكره:قد مكر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، فسكنتم من بعدهم في مساكنهم ، مكرهم. وكان مكرهم الذي مكروا ما:
حدثنا محمد بن بشار ، قال:ثنا يحيى ، قال:ثنا سفيان ، قال:ثنا أبو إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبان (8) قال:سمعت عليا يقرأ:"وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "قال:كان ملك فره (9) أخذ فروخ النسور ، فعلفها اللحم حتى شبَّت واستعلجت واستغلظت . فقعد هو وصاحبه في التابوت وربطوا التابوت بأرجل النسور ، وعلقوا اللحم فوق التابوت ، فكانت كلما نظرت إلى اللحم صعدت وصعدت ، فقال لصاحبه:ما ترى؟ قال:أرى الجبالمثل الدخان ، قالا ما ترى؟ قال:ما أرى شيئا ، قال:ويحك صوّب صوّب ، قال:فذلك قوله:( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ).
حدثنا محمد بن بشار ، قال:ثنا محمد بن جعفر ، قال:ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن واصل (10) عن عليّ بن أبي طالب ، مثل حديث يحيى بن سعيد ، وزاد فيه:وكان عبد الله بن مسعود يقرؤها:"وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثنا الحسن بن محمد ، قال:ثنا محمد بن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال:ثنا عبد الرحمن بن واصل (11) أن عليا قال في هذه الآية:"وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "قال:أخذ ذلك الذي حاجّ إبراهيم في ربه نسرين صغيرين فرباهما ، ثم استغلظا واستعلجا وشبَّا ، قال:فأوثق رجل كلّ واحد منهما بوتد إلى تابوت ، وجوّعهما ، وقعد هو ورجل آخر في التابوت ، قال:ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم ، قال:فطارا ، وجعل يقول لصاحبه:انظر ماذا ترى؟ قال:أرى كذا وكذا ، حتى قال:أرى الدنيا كأنها ذباب ، فقال:صوّب العصا ، فصوّبها فهبطا ، قال:فهو قول الله تعالى "وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "قال أبو إسحاق:وكذلك في قراءة عبد الله "وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثني المثنى ، قال:ثنا أبو حذيفة ، قال:ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد "وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "مكر فارس. وزعم أن بختنصر خرج بنسور ، وجعل له تابوتا يدخله ، وجعل رماحا في أطرافها واللحم فوقها . أراه قال:فعلت تذهب نحو اللحم حتى انقطع بصره من الأرض وأهلها ، فنودي:أيها الطاغية أين تريد؟ ففرق:ثم سمع الصوت فوقه ، فصوّب الرماح ، فتصوّبت النسور ، ففزعت الجبال من هدّتها ، وكادت الجبال أن تزول منه من حسّ ذلك ، فذلك قوله "وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثا القاسم ، قال:ثنا الحسين ، قال:ثني حجاج ، قال:قال ابن جريج ، قال مجاهد:"وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ "كذا قرأها مجاهد "كَادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ"وقال:إن بعض من مضى جوّع نسورا ، ثم جعل عليها تابوتا فدخله ، ثم جعل رماحا في أطرافها لحم ، فجعلت ترى اللحم فتذهب ، حتى انتهى بصره ، فنودي:أيها الطاغية أين تريد؟ فصوّب الرماح ، فتصوّبت النسور ، ففزعت الجبال ، وظنت أن الساعة قد قامت ، فكادت أن تزول ، فذلك قوله تعالى "وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
قال ابن جريج:أخبرني عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن عمر بن الخطاب ، أنه كان يقرأ "وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثني هذا الحديث أحمد بن يوسف ، قال:ثنا القاسم بن سلام ، قال:ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، أنه كان يقرأ على نحو:"لَتَزُولُ "بفتح اللام الأولى ورفع الثانية.
حدثنا ابن وكيع ، قال:ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن دانيل (12) قال:سمعت عليا يقول:"وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثنا ابن وكيع ، قال:ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن دانيل (13) قال:سمعت عليا يقول:"وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "قال:ثم أنشأ عليّ يحدّث فقال:نـزلت في جبَّار من الجبابرة قال:لا أنتهي حتى أعلم ما في السماء ، ثم اتخذ نسورا فجعل يطعمها اللحم حتى غلظت واستعلجت واشتدّت ، وذكر مثل حديث شعبة.
حدثنا ابن وكيع ، قال:ثنا أبو داود الحضرمي ، عن يعقوب ، عن حفص بن حميد أو جعفر ، عن سعيد بن جبير:"وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "قال:نمرود صاحب النسور ، أمر بتابوت فجعل وجعل معه رجلا ثم أمر بالنسور فاحتمل ، فلما صعد قال لصاحبه:أي شيء ترى؟ قال:أرى الماء وجزيرة -يعني الدنيا- ثم صعد فقال لصاحبه:أي شيء ترى؟ قال:ما نـزداد من السماء إلا بعدا ، قال:اهبط -وقال غيره:نودي- أيها الطاغية أين تريد؟ قال:فسمعت الجبال حفيف النسور ، فكانت ترى أنها أمر من السماء ، فكادت تزول ، فهو قوله:"وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثنا ابن وكيع ، قال:ثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، أن أنسا كان يقرأ:"وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
وقال آخرون:كان مكرهم:شركهم بالله ، وافتراؤهم عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى ، قال:ثنا أبو صالح ، قال:ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس "وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "يقول:شركهم ، كقولهتَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ.
حدثنا ابن وكيع ، قال:ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك:"وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "قال:هو كقولهوَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا.
حدثني المثنى ، قال:ثنا عمرو بن عون ، قال:أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ ) ثم ذكر مثله.
حدثنا بشر ، قال:ثنا يزيد ، قال:ثنا سعيد ، عن قتادة ، أن الحسن كان يقول:كان أهون على الله وأصغر من أن تزول منه الجبال ، يصفهم بذلك. قال قتادة:وفي مصحف عبد الله بن مسعود:"وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "، وكان قتادة يقول عند ذلكتَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّاأي لكلامهم ذلك.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال:ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله:"وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "قال ذلك حين دعوا لله ولدا. وقال في آية أخرىتَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا.
حُدِثت عن الحسين ، قال:سمعت أبا معاذ يقول:أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال:سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) في حرف ابن مسعود:"وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "هو مثل قولهتَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء الحجاز والمدينة والعراق ما خلا الكسائي ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، بمعنى:وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وقرأه الكسائي:"وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "بفتح اللام الأولى ورفع الثانية على تأويل قراءة من قرا ذلك:"وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "من المتقدمين الذين ذكرت أقوالهم ، بمعنى:اشتدّ مكرهم حتى زالت منه الجبال ، أو كادت تزول منه ، وكان الكسائي يحدّث عن حمزة ، عن شبل عن مجاهد ، أنه كان يقرأ ذلك على مثل قراءته "وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "برفع تزول.
حدثني بذلك الحارث عن القاسم عنه.
والصواب من القراءة عندنا ، قراءة من قرأه ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، بمعنى:وما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
وإنما قلنا:ذلك هو الصواب ، لأن اللام الأولى إذا فُتحت ، فمعنى الكلام:وقد كان مكرهم تزول منه الجبال ، ولو كانت زالت لم تكن ثابتة ، وفي ثبوتها على حالتها ما يبين عن أنها لم تزُل ، وأخرى إجماع الحجة من القرّاء على ذلك ، وفي ذلك كفاية عن الاستشهاد على صحتها وفساد غيرها بغيره.
فإن ظنّ ظانٌّ أن ذلك ليس بإجماع من الحجة إذ كان من الصحابة والتابعين من قرأ ذلك كذلك ، فإن الأمر بخلاف ما ظنّ في ذلك ، وذلك أن الذين قرءوا ذلك بفتح اللام الأولى ورفع الثانية قرءوا:"وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ "بالدال ، وهي إذا قرئت كذلك ، فالصحيح من القراءة مع "وَإِنْ كادَ "فتح اللام الأولى ورفع الثانية على ما قرءوا ، وغير جائز عندنا القراءة كذلك ، لأن مصاحفنا بخلاف ذلك ، وإنما خطَّ مصاحفنا وإن كان بالنون لا بالدال ، وإذ كانت كذلك ، فغير جائز لأحد تغيير رسم مصاحف المسلمين ، وإذا لم يجز ذلك لم يكن الصحاح من القراءة إلا ما عليه قرّاء الأمصار دون من شذ بقراءته عنهم.
وبنحو ما قلنا في معنى ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ ) قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد ، قال:ثني أبي ، قال:ثني عمي ، قال:ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) بقول:ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال:ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال:قال الحسن ، في قوله ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
حدثني المثنى ، قال:ثنا عمرو بن عون ، قال:أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، قال:ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
حدثني الحارث ، قال:ثنا القاسم ، قال:ثنا حجاج ، عن هارون ، عن يونس وعمرو ، عن الحسن ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) قالا وكان الحسن يقول:وإن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال.
- قال:قال هارون:وأخبرني يونس ، عن الحسن قال:أربع في القرآن ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، وقولهلاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَما كنا فاعلين ، وقولهإِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَما كان للرحمن ولد ، وقولهوَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْما مكناكم فيه.
قال هارون:وحدثني بهنّ عمرو بن أسباط ، عن الحسن ، وزاد فيهنّ واحدةفَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّما كنت في شكّمِمَّا أَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ.
فالأولى من القول بالصواب في تأويل الآية ، إذ كانت القراءة التي ذكرت هي الصواب لما بيَّنا من الدلالة في قوله ( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) وقد أشرك الذين ظلموا أنفسهم بربهم وافتروا عليه فريتهم عليه ، وعند الله علم شركهم به وافترائهم عليه ، وهو معاقبهم على ذلك عقوبتهم التي هم أهلها ، وما كان شركهم وفريتهم على الله لتزول منه الجبال ، بل ما ضرّوا بذلك إلا أنفسهم ، ولا عادت بغية مكروهه إلا عليهم.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال:ثنا وكيع بن الجرّاح ، قال:ثنا الأعمش ، عن شمر ، عن عليّ ، قال:الغدر:مكر ، والمكر كفر.
-----------------------
الهوامش:
(8) سيأتي ( ص 345 ) أن اسمه عبد الرحمن بن دانيل ، وقد نقل هذا الاسم القرطبي في تفسيره ( 9:380 ) ولم أجده في أسماء الرواة ، ولعل لفظتي "أبان ، وواصل "هنا تحريف عن "دانيل ".
(9) الفره:البطر الأشر . المتمادي في غيه .
(10) تقدمت الإشارة إليه في ( ص 244 ) .
(11) تقدمت الإشارة إليه في ( ص 244 ) .
(12) تقدمت الإشارة إليه في ( ص 244 ) .
(13) تقدمت الإشارة إليه في ( ص 244 ) .