وقوله:(أشحَّةً عَلَيْكُمْ) اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله به هؤلاء المنافقين في هذا الموضع من الشح، فقال بعضهم:وصفهم بالشحّ عليهم في الغنيمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني بشر، قال:ثنا يزيد، قال:ثنا سعيد، عن قتادة (أشِحَّةً عَلَيْكُمْ) في الغنيمة.
وقال آخرون:بل وصفهم بالشحّ عليهم بالخير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال:ثنا أبو عاصم، قال:ثني عيسى، وحدثني الحارث، قال:ثنا الحسن، قال:ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أشِحَّةً عَلَيْكُمْ) قال:بالخير المنافقون، وقال غيره:معناه:أشحة عليكم بالنفقة على ضعفاء المؤمنين منكم.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال:إن الله وصف هؤلاء المنافقين بالجبن والشحّ، ولم يخصص وصفهم من معاني الشحّ، بمعنى دون معنى، فهم كما وصفهم الله به:أشحة على المؤمنين بالغنيمة والخير والنفقة في سبيل الله، على أهل مسكنة المسلمين. ونصب قوله:(أشِحَّةً عَلَيْكُمْ) على الحال من ذكر الاسم الذي في قوله:(وَلا يَأْتُونَ البأْسَ) كأنه قيل:هم جبناء عند البأس، أشحاء عند قسم الغنيمة بالغنيمة. وقد يحتمل أن يكون قطعا من قوله:(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) فيكون تأويله:قد يعلم الله الذين يعوّقون الناس على القتال، ويشحون عند الفتح بالغنيمة، ويجوز أن يكون أيضا قطعا من قوله:هلم إلينا أشحة، وهم هكذا أشحة. ووصفهم جلّ ثناؤه بما وصفهم من الشحّ على المؤمنين لما في أنفسهم لهم من العداوة والضغن.
كما حدثنا ابن حميد، قال:ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:ثني يزيد بن رومان (أشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي للضغن الذي في أنفسهم.
وقوله:(فإذَا جاءَ الخَوْفُ ...) إلى قوله:(مِنَ المَوْتِ) يقول تعالى ذكره:فإذا حضر البأس، وجاء القتال خافوا الهلاك والقتل، رأيتهم يا محمد ينظرون إليك لواذا بك، تدور أعينهم خوفا من القتل، وفرارا منه (كالَّذي يُغْشَى علَيْهِ مِنَ المَوْتِ) يقول:كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت النازل به (فإذَا ذَهَبَ الخَوْفُ) يقول:فإذا انقطعت الحرب واطمأنوا(سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال:ثنا يزيد، قال:ثنا سعيد، عن قتادة ( فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ) مِنَ الخَوْفِ.
حدثنا ابن حميد، قال:ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:ثني يزيد بن رومان ( فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) أي إعظامًا وفَرقا منه وأما قوله:(سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ) فإنه يقول:عضوكم بألسنة ذربة. ويقال للرجل الخطيب الذرب اللسان:خطيب مسلق ومصلق، وخطيب سَلاق وصَلاق.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف تعالى ذكره هؤلاء المنافقين أنهم يسلقون المؤمنين به، فقال بعضهم:ذلك سلقهم إياهم عند الغنيمة بمسألتهم القسم لهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال:ثنا يزيد، قال:ثنا سعيد، عن قتادة ( فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) أما عند الغنيمة، فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة، أعطونا أعطونا فإنا قد شهدنا معكم. وأما عند البأس فأجبن قوم، وأخذله للحقّ.
وقال آخرون:بل ذلك سلقهم إياهم بالأذَى.
* ذكر ذلك عن ابن عباس:
حدثني عليّ، قال:ثنا أبو صالح، قال:ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله:(سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ) قال:استقبلوكم.
حدثني يونس، قال:أخبرنا ابن وهب، قال:قال ابن زيد (سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ) قال:كلموكم.
وقال آخرون:بل معنى ذلك:أنهم يسلقونهم من القول بما تحبون نفاقا منهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال:ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:ثني يزيد بن رومان ( فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) في القول بما تحبون لأنهم لا يرجون آخرة، ولا تحملهم حسبة، فهم يهابون الموت هيبة من لا يرجو ما بعده.
وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنـزيل قول من قال:( سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ) فأخبر أن سلقهم المسلمين شحا منهم على الغنيمة والخير، فمعلوم إذ كان ذلك كذلك، أن ذلك لطلب الغنيمة. وإذا كان ذلك منهم لطلب الغنيمة دخل في ذلك قول من قال:معنى ذلك:سلقوكم بالأذى، لأن فعلهم ذلك كذلك لا شكّ أنه للمؤمنين أذى.
وقوله:(أشِحَّةً عَلى الخَيْرِ) يقول:أشحة على الغنيمة إذا ظفر المؤمنون.
وقوله:(لَمْ يُؤْمِنُوا فأحْبَطَ اللهُ أعمالَهُمْ) يقول تعالى ذكره:هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم في هذه الآيات لم يصدّقوا الله ورسوله. ولكنهم أهل كفر ونفاق، (فَأَحْبَطَ اللهُ أعمالَهُمْ) يقول:فأذهب الله أجور أعمالهم وأبطلها. وذُكر أن الذي وصف بهذه الصفة كان بدريا، فأحبط الله عمله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال:أخبرنا ابن وهب، قال:قال ابن زيد في قوله:( فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) قال:فحدثني أبي أنه كان بدريا، وأن قوله:(فأَحْبَطَ اللهُ أعمالَهُمْ) أحبط الله عمله يوم بدر.
وقوله:(وكانَ ذلكَ على اللهِ يَسِيرًا) يقول تعالى ذكره:وكان إحباط عملهم الذي كانوا عملوا قبل ارتدادهم ونفاقهم على الله يسيرا.