وقوله ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) يقول تعالى ذكره:هذا حميم, وهو الذي قد أغلي حتى انتهى حرّه, وغساق فَلْيذوقوه; فالحميم مرفوع بهذا, وقوله ( فَلْيَذُوقُوهُ ) معناه التأخير, لأن معنى الكلام ما ذكرت, وهو:هذا حميم وغساق فليذوقوه. وقد يتجه إلى أن يكون هذا مكتفيا بقوله فليذوقوه ثم يُبْتَدأ فيقال:حميم وغَسَّاق, بمعنى:منه حميم ومنه غَسَّاق.
كما قال الشاعر:
حـتى إذا أضَـاءَ الصُّبْـحُ فـي غَلَسٍ
وَغُــودِرَ البَقْـلُ مَلْـوِيٌّ وَمَحْـصُودٌ (5)
وإذا وُجِّه إلى هذا المعنى جاز في هذا النصب والرفع. النصب:على أن يُضْمر قبلها لها ناصب, كما قال الشاعر:
زِيادَتَنـــا نُعْمــانُ لا تَحْرِمَنَّنــا
تَـقِ اللـه فِينـا والكِتـابَ الَّـذي تَتْلُو (6)
والرفع بالهاء في قوله ( فَلْيَذُوقُوهُ ) كما يقال:الليلَ فبادروه, والليلُ فبادروه.
حدثنا محمد بن الحسين, قال:ثنا أحمد بن المفضل , قال:ثنا أسباط, عن السديّ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال:الحميم:الذي قد انتهى حَرُّه.
حدثني يونس, قال:أخبرنا ابن وهب, قال:قال ابن زيد:الحميم دموع أعينهم, تجمع في حياض النار فيسقونه.
وقوله ( وَغَسَّاقٌ ) اختلفت القرّاء في قراءته, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين والشام بالتخفيف:"وَغَسَاق "وقالوا:هو اسم موضوع. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة:( وَغَسَّاقٌ ) مشددة, ووجهوه إلى أنه صفة من قولهم:غَسَقَ يَغْسِقُ غُسُوقا:إذا سال, وقالوا:إنما معناه:أنهم يُسْقَون الحميم, وما يسيل من صديدهم.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب, وإن كان التشديد في السِّين أتم عندنا في ذلك, لأن المعروف ذلك في الكلام, وإن كان الآخر غير مدفوعة صحته.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك, فقال بعضهم:هو ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال:ثنا يزيد, قال:ثنا سعيد, عن قتادة ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال:كنا نحدث أن الغسَّاق:ما يَسِيل من بين جلده ولحمه.
حدثنا محمد, قال:ثنا أحمد, قال:ثنا أسباط, عن السديّ, قال:الغساق:الذي يسيل من أعينهم من دموعهم, يسقونه مع الحميم.
حدثنا ابن حميد, قال:ثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم, قال:الغسَّاق:ما يسيل من سُرْمهم, وما يسقط من جلودهم.
حدثني يونس, قال:أخبرنا ابن وهب, قال:قال ابن زيد ( الغساق ):الصديد الذي يجمع من جلودهم مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه.
حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهميّ, قال:ثني أبي, قال:ثنا ابن لَهِيعة, قال:ثني أبو قبيل أنه سمع أبا هبيرة الزيادي يقول:سمعت عبد الله بن عمرو يقول:أيّ شيء الغسَّاق؟ قالوا:الله أعلم, فقال عبد الله بن عمرو:هو القَيْح الغليظ, لو أن قطرة منه تُهَرَاق في المغرب لأنتنت أهل المشرق, ولو تُهَرَاق في المشرق لأنتنت أهل المغرب.
قال يحيى بن عثمان, قال أبي:ثنا ابن لهيعة مرة أخرى, فقال:ثنا أبو قبيل, عن عبد الله بن هبيرة, ولم يذكر لنا أبا هبيرة.
حدثنا ابن عوف, قال:ثنا أبو المغيرة, قال:ثنا صفوان, قال:ثنا أبو يحيى عطية الكلاعيّ, أن كعبا كان يقول:هل تدرون ما غسَّاق؟ قالوا:لا والله, قال:عين في جهنم يسيل إليها حُمَّةٌ كل ذات حُمَة من حية أو عقرب أو غيرها, فيستنقع فيؤتى بالآدمي, فيُغْمَس فيها غمسة واحدة, فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام. حتى يتعلق جلده في كعبيه وعقبيه, وينجر لحمه كجر الرجل ثوبه.
وقال آخرون:هو البارد الذي لا يستطاع من برده.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن يحيى بن أبي زائدة, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( وَغَسَّاقٌ ) قال:بارد لا يُسْتطاع, أو قال:برد لا يُسْتطاع.
حدثني عليّ بن عبد الأعلى, قال:ثنا المحاربيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال:يقال:الغسَّاق:أبرد البرد, ويقول آخرون:لا بل هو أنْتَن النَّتْن.
وقال آخرون:بل هو المُنْتِن.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن المسيب, عن إبراهيم النكري, عن صالح بن حيان, عن أبيه, عن عبد الله بن بُرَيدة, قال:الغسَّاق:المنتن, وهو بالطُّخارية (7) .
حدثني يونس, قال:أخبرنا ابن وهب, قال:ثني عمرو بن الحارث, عن درّاج, عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدريّ, أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:"لَوْ أنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يُهَراقُ فِي الدُّنْيا لأنْتَنَ أهْلَ الدُّنْيا ".
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال:هو ما يسيل من صديدهم, لأن ذلك هو الأغلب من معنى الغُسُوق, وإن كان للآخر وجه صحيح.
------------------
الهوامش:
(5) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 281 ) قال في قوله تعالى:"هذا فليذوقوه حميم وغساق":رفعت الحميم والغساق بهذا ، مقدما ومؤخرا . والمعنى:هذا حميم وغساق فليذوقوه . وإن شئت جعلته ( حميم وغساق ):مستأنفا ، وجعلت الكلام قبله مكتفيا ، كأنك قلت:"هذا فليذوقوه"ثم قلت:منه غساق . كقول الشاعر:"حتى إذا ... البيت) . أ هـ .
(6) هذا البيت لعبد الله بن همام السلولي ( اللسان:وفي ) يخاطب النعمان بن بشير الأنصاري ، وكان قد ولي الكوفة لمعاوية ، وكان معاوية قد زاد أناسا في أعطياتهم عشرة ، فأنفذ النعمان ، وترك بعضهم لأنهم جاءوا بكتب بعد ما فرغ من الحملة ، وكان ابن همام ممن تخلف ، فكلمه فأبى عليه:فقال ابن همام قصيدة يرفقه عليه ، ويتشفع بالأنصار ، ويمدح معاوية . وقوله"زيادتنا"منصوب بفعل محذوف يفسره الفعل المؤكد بالنون . لأنه يعمل فيما قبله ، كما قال الرضى:والفعل المؤكد يروي:لا تنسبنها ، ويروي لا تحرمننا (انظر شرح شواهد الشافية للرضي ص 497 ) .
(7) لعله يريد بالطخارية:المنسوبة إلى طخارستان ، بضم أوله ، وهو إقليم من بلاد العجم ، شرقي جرجان يريد أن لفظة"غساق"ليست عربية الأصل .