القول في تأويل قوله تعالى:وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
وفي قوله ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) وجهان من التأويل, أحدهما:وجاءت سكرة الموت وهي شدّته وغلبته على فهم الإنسان, كالسكرة من النوم أو الشراب بالحقّ من أمر الآخرة, فتبينه الإنسان حتى تثبته وعرفه. والثاني:وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت.
وقد ذُكر عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه كان يقرأ ( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الحَقّ بالمَوْتِ ).
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا محمد بن المثنى, قال:ثنا محمد بن جعفر, قال:ثنا شعبة, عن واصل, عن أبي وائل, قال:لما كان أبو بكر رضي الله عنه يقضي, قالت عائشة رضي الله عنها هذا, كما قال الشاعر:
إذَا حَشْرَجَتْ يَوْما وَضَاقَ بِها الصَّدْرُ (4)
فقال أبو بكر رضي الله عنه:لا تقولي ذلك, ولكنه كما قال الله عزّ وجلّ:( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) (5) . وقد ذُكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود. ولقراءة من قرأ ذلك كذلك من التأويل وجهان:
أحدهما:وجاءت سكرة الله بالموت, فيكون الحقّ هو الله تعالى ذكره. والثاني:أن تكون السكرة هي الموت أُضيفت إلى نفسها, كما قيل:إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ. ويكون تأويل الكلام:وجاءت السكرةُ الحق بالموت.
وقوله ( ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) يقول:هذه السكرة التي جاءتك أيها الإنسان بالحقّ هو الشيء الذي كنت تهرب منه, وعنه تروغ.
--------------------------
الهوامش:
(4) هذا عجز بيت، وصدره كما في ( اللسان:حشرج ) * لعمـرك ما يغني الثراء ولا الغنى *
قال:الحشرجة:تردد صوت النفس وهو الغرغرة في الصدور . وفي حديث عائشة ودخلت على أبيها - رضي الله عنهما - عند موته ، فأنشدت:"لعمرك ... البيت "فقال:ليس كذلك ، ولكن:"وجاء سكرة الحق بالموت ". وهي قراءة منسوبة إليه وقال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 309 ) عند قوله تعالى:"وجاءت سكرة الموت بالحق ":وفي قراءة عبد الله ( ابن مسعود ) وإن شئت جعلت السكرة هي الموت ، أضفتها إلى نفسها كأنك قلت:جاءت سكرة الحق بالموت أ هـ . قلت:ض وهذا البيت لحاتم الطائي ، وروايته في ديوانه ( لندن سنة 1872 ص 39 ):
أمـاوِيَّ مـا يُغْنِـي الـثَّرَاءُ عنِ الفَتَى
إذا حَشْـرَجَتْ يوْما وَضَاقَ بها الصَّدْرُ
(5) لعله سكرة الحق بالموت فإنها قراءة الصديق رضي الله عنه إلا أن تكون القراءة الأخرى رويت عنه أيضًا .