وقوله:( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ) ، يقول تعالى:وجاءت - أيها الإنسان - سكرة الموت بالحق ، أي:كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه ، ( ذلك ما كنت منه تحيد ) أي:هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك ، فلا محيد ولا مناص ، ولا فكاك ولا خلاص .
وقد اختلف المفسرون في المخاطب بقوله:( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ) ، فالصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو . وقيل:الكافر ، وقيل غير ذلك .
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا:حدثنا إبراهيم بن زياد - سبلان - أخبرنا عباد بن عباد عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص أن عائشة رضي الله عنها ، قالت:حضرت أبي وهو يموت ، وأنا جالسة عند رأسه ، فأخذته غشية فتمثلت ببيت من الشعر:
من لا يزال دمعه مقنعا فإنه لا بد مرة مدقوق
قالت:فرفع رأسه فقال:يا بنية ، ليس كذلك ولكن كما قال تعالى:( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ) .
وحدثنا خلف بن هشام ; حدثنا أبو شهاب [ الخياط] ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن البهي قال:لما أن ثقل أبو بكر رضي الله عنه ، جاءت عائشة رضي الله عنها ، فتمثلت بهذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فكشف عن وجهه وقال:ليس كذلك ، ولكن قولي:( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ) وقد أوردت لهذا الأثر طرقا [ كثيرة] في سيرة الصديق عند ذكر وفاته رضي الله عنه .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول:"سبحان الله ! إن للموت لسكرات ". وفي قوله:( ذلك ما كنت منه تحيد ) قولان:
أحدهما:أن "ما "هاهنا موصولة ، أي:الذي كنت منه تحيد - بمعنى:تبتعد وتنأى وتفر - قد حل بك ونزل بساحتك .
والقول الثاني:أن "ما "نافية بمعنى:ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه ولا الحيد عنه .
وقد قال الطبراني في المعجم الكبير:حدثنا محمد بن علي الصائغ المكي ، حدثنا حفص بن عمر الحدي ، حدثنا معاذ بن محمد الهذلي ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن سمرة قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"مثل الذي يفر من الموت مثل الثعلب ، تطلبه الأرض بدين ، فجاء يسعى حتى إذا أعيى وأسهر دخل جحره ، فقالت له الأرض:يا ثعلب ديني . فخرج وله حصاص ، فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه ومات ".
ومضمون هذا المثل:كما لا انفكاك له ولا محيد عن الأرض كذلك الإنسان لا محيد له عن الموت .