حدثنا ابن عبد الأعلى، قال:ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ) ثم أخبر عن اقتحامها فقال:(فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ).
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء البصرة، عن ابن أبي إسحاق، ومن الكوفيين:الكسائي ( فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ أطْعَمَ ) وكان أبو عمرو بن العلاء يحتجّ فيما بلغني فيه بقوله:ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا كأن معناه:كان عنده، فلا فكّ رقبة ولا أطعم، ثم كان من الذين آمنوا. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والشام ( فَكُّ رَقَبَةٍ ) على الإضافة (أَوْ إِطْعَامٌ) على وجه المصدر.
والصواب من القول في ذلك:أنهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، وتأويل مفهوم، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. فقراءته إذا قرئ على وجه الفعل تأويله:فلا اقتحم العقبة، لا فكّ رقبة، ولا أطعم، ثم كان من الذين آمنوا، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) على التعجب والتعظيم وهذه القراءة أحسن مخرجا في العربية، لأن الإطعام اسم، وقوله:ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فعل، والعرب تُؤثِر ردّ الأسماء على الأسماء مثلها، والأفعال على الأفعال، ولو كان مجيء التَّنـزيل ثم إن كان من الذين آمنوا، كان أحسن، وأشبه بالإطعام والفكّ من ثم كان، ولذلك قلت:( فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ أطْعَمَ ) أوجه في العربية من الآخر، وإن كان للآخر وجه معروف، ووجهه أنْ تضمر "أنْ "ثم تلقي، كما قال طرفة بن العبد:
ألا أيُّهَـا ذَا الزَّاجِـرِي أحْـضُرَ الْوَغَى
وأنْ أشْـهَدَ اللَّـذَّاتِ هـلْ أنتَ مُخْلِدي (2)
بمعنى:ألا أيهاذا الزاجري أن أحضر الوغى. وفي قوله:"أن أشهد "الدلالة البينة على أنها معطوفة على أن أخرى مثلها، قد تقدّمت قبلها، فذلك وجه جوازه. وإذا وُجِّه الكلام إلى هذا الوجه كان قوله:(فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ) تفسيرًا لقوله:( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ) كأنه قيل:وما أدراك ما العقبة؟ هي فكّ رقبة ( أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ) كما قال جلّ ثناؤه:وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ، ثم قال:نَارٌ حَامِيَةٌ مفسرا لقوله:فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ، ثم قال:وما أدراك ما الهاوية؟ هي نار حامية.
------------------------
الهوامش:
(2) البيت من معلقة طرفة بن العبد البكري ( مختار من الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي 317 ) قال:أحضر:رواه البصريون برفع الراء ، ورواه الكوفيون بنصبها ، على تقدير ( أن ) في غير المواضع العشرة المعروفة . والوغى:الحرب . وأصله أصوات المحاربين . يقول:أيها الإنسان الذي يلومني على حضور الحرب ، وحصول اللذات ، هل تخلدني في الدنيا إذا كففت عنها . ا هـ .