ثم أمرهن- سبحانه- بعد ذلك بالاستقرار في بيوتهن، وعدم الخروج منها إلا لحاجة شرعية فقال وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ.
قال القرطبي ما ملخصه:قوله وَقَرْنَ قرأه الجمهور- بكسر القاف- من القرار تقول:قررت بالمكان- بفتح الراء- أقر- بكسر القاف- إذا نزلت فيه- والأصل:
اقررن- بكسر الراء- فحذفت الراء الأولى تخفيفا.. ونقلوا حركاتها إلى القاف، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف.. فصارت الكلمة قَرْنَ- بكسر القاف-.
وقرأ عاصم ونافع وقرن- بفتح القاف- من قررت في المكان- بكسر الراء- إذا أقمت فيه.. والأصل اقررن- بفتح الراء- فحذفت الراء الأولى لثقل التضعيف،وألقيت حركتها على القاف.. فتقول:قَرْنَ- بالفتح للقاف-.
والمعنى:الزمن يا نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بيوتكن، ولا تخرجن منها إلا لحاجة مشروعة، ومثلهن في ذلك جميع النساء المسلمات، لأن الخطاب لهن في مثل هذه الأمور، هو خطاب لغيرهن من النساء المؤمنات من باب اولى، وإنما خاطب- سبحانه- أمهات المؤمنين على سبيل التشريف، واقتداء غيرهن بهن.
قال بعض العلماء:والحكمة في هذا الأمر:أن ينصرفن إلى رعاية شئون بيوتهن، وتوفير وسائل الحياة المنزلية التي هي من خصائصهن، ولا يحسنها الرجال، وإلى تربية الأولاد في عهد الطفولة وهي من شأنهن. وقد جرت السنة الإلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما، فللرجال أعمال من خصائصهم لا يحسنها النساء، وللنساء أعمال من خصائصهن لا يحسنها الرجال، فإذا تعدى أحد الفريقين عمله، اختل النظام في البيت والمعيشة .
وقال صاحب الظلال ما ملخصه:والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله- تعالى- ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه السليم، ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها، أوجب على الرجل النفقة، وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب، وما تهيء به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها.
فالأم المكدودة بالعمل وبمقتضياته وبمواعيده.. لا يمكن أن تهيء للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تهيء للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها.
إن خروج المرأة للعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرور والضلال .
وهذه الجملة الكريمة ليس المقصود بها ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا وإنما المقصود بها أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن، ولا يخرجن إلا لحاجة مشروعة، كأداء الصلاة في المسجد، وكأداء فريضة الحج وكزيارة الوالدين والأقارب، وكقضاء مصالحهن التي لا تقضى إلا بهن.. بشرط أن يكون خروجهن مصحوبا بالتستر والاحتشام وعدم التبذل.
ولذا قال- سبحانه- بعد هذا الأمر، وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى.
وقوله:تَبَرَّجْنَ مأخوذ من البرج- بفتح الباء والراء- وهو سعة العين وحسنها، ومنه قولهم:سفينة برجاء، أى:متسعة ولا غطاء عليها.
والمراد به هنا:إظهار ما ينبغي ستره من جسد المرأة، مع التكلف والتصنع في ذلك.
والجاهلية الأولى، بمعنى المتقدمة، إذ يقال لكل متقدم ومتقدمة:أول وأولى.
أو المراد بها:الجاهلية الجهلاء التي كانت ترتكب فيها الفواحش بدون تحرج.
وقد فسروها بتفسيرات متعددة، منها:قول مجاهد:كانت المرأة تخرج فتمشى بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية.
ومنها قول قتادة:كانت المرأة في الجاهلية تمشى مشية فيها تكسر.
ومنها قول مقاتل:والتبرج:أنها تلقى الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وعنقها.
ويبدو لنا أن التبرج المنهي عنه في الآية الكريمة، يشمل كل ذلك، كما يشمل كل فعل تفعله المرأة، ويكون هذا الفعل متنافيا مع آداب الإسلام وتشريعاته.
والمعنى:الزمن يا نساء النبي بيوتكن، فلا تخرجن إلا لحاجة مشروعة، وإذا خرجتن فاخرجن في لباس الحشمة والوقار، ولا تبدى إحداكن شيئا أمرها الله- تعالى- بستره وإخفائه، واحذرن التشبيه بنساء أهل الجاهلية الأولى، حيث كن يفعلن ما يثير شهوة الرجال، ويلفت أنظارهم إليهن.
ثم أتبع- سبحانه- هذا النهى بما يجعلهن على صلة طيبة بخالقهن- عز وجل- فقال:
وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ أى:داومن على إقامتها في أوقاتها بخشوع وإخلاص. وَآتِينَ الزَّكاةَ التي فرضها الله- تعالى- عليكن. وخص- سبحانه- هاتين الفريضتين بالذكر من بين سائر الفرائض، لأنهما أساس العبادات البدنية والمالية.
وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أى في كل ما تأتين وتتركن، لا سيما فيما أمرتن به، ونهيتن عنه.
وقوله:إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً تعليل لما أمرن به من طاعات، ولما نهين عنه من سيئات.
والرجس في الأصل:يطلق على كل شيء مستقذر. وأريد به هنا:الذنوب والآثام وما يشبه ذلك من النقائص والأدناس.
وقوله أَهْلَ الْبَيْتِ منصوب على النداء، أو على المدح. ويدخل في أهل البيت هنا دخولا أوليا:نساؤه صلّى الله عليه وسلّم بقرينة سياق الآيات.
أى:إنما يريد الله- تعالى- بتلك الأوامر التي أمركن بها، وبتلك النواهي التي نهاكن عنها، أن يذهب عنكن الآثام والذنوب والنقائص، وأن يطهركن من كل ذلك تطهيرا تاما كاملا.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه:قوله:إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ... هذا نص في دخول أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في أهل البيت ها هنا، لأنهن سبب نزول هذه الآية..
وقد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك، فقد روى الإمام أحمد بسنده- عن أنس بن مالك قال:«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر، يقول:الصلاة يا أهل البيت:ثم يتلو هذه الآية..» .
وقال بعض العلماء:والتحقيق- إن شاء الله- أنهن داخلات في الآية، بدليل السياق، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت..
ونظير ذلك من دخول الزوجات في اسم أهل البيت، قوله- تعالى- في زوجة إبراهيم:
قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ.
وأما الدليل على دخول غيرهن في الآية، فهو أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال في على وفاطمة والحسن والحسين- رضى الله عنهم-:«إنهم أهل البيت» ودعا الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا.
وبما ذكرنا تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ولعلى وفاطمة والحسن والحسين.
فإن قيل:الضمير في قوله:لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ وفي قوله:وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ضمير الذكور، فلو كان المراد أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لقيل ليذهب عنكن ويطهركن؟.
فالجواب:ما ذكرناه من أن الآية تشملهن وتشمل فاطمة وعلى والحسن والحسين، وقد أجمع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع ونحوها..
ومن أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن، أن زوجة الرجل يطلق عليها أهل،وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر، ومنه قوله- تعالى- في موسى فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا وقوله سَآتِيكُمْ والمخاطب امرأته كما قاله غير واحد..
وقال بعض أهل العلم:إن أهل البيت في الآية هم من تحرم عليهم الصدقة.