{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي الزمن بيوتكن ،فلا تخرجن منها كما تخرج بقية النساء .وهل هو أمرٌ بحبسهنّ فيها ،كما هو المعنى الحرفي للكلمة ،أم هو كنايةٌ عن عدم الخروج الاستعراضي الذي يظهرن فيه بطريقةٍ لا تتناسب مع كمال المرأة في تقواها الأخلاقي ،وذلك بخروجهن بزينتهن ؟والمعنى الثاني هو المقصود ،فيكون مقدمةً لقوله تعالى:{وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاُْولَى} لأنّ المرأة في الجاهلية التي سبقت الإسلام كانت تخرج إلى مجتمعات الرجال ونواديهم بكل زينتها ،في موضع غير لائق بالضوابط الأخلاقية في هذا المجال ،وبذلك تكون الفقرتان واردتين في الحديث عن عدم الخروج من البيوت بالطريقة التي تخرج بها النساء في الجاهلية ،لا عدم الخروج أصلاً ،لأنه لم يُعهد المنع المطلق من الخروج في حديث السيرة النبوية ،وربما كان كناية عن الثبات في البيوت ،في ما يمثله البيت من مكان الاستقرار للمرأة في دورها الطبيعي الذي يتصل بالأمومة من جهة ،ورعاية الزوج من جهة أخرى ،والإشراف على الأسرة بشكل عام ،والله العالم .
{وَأَقِمْنَ الصّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ} في ما يوحيان به من التقوى الروحية والعملية ،والتضحية في سبيل الله من خلال العطاء المالي للزكاة ،{وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فذلك هو الخط الذي يجب أن يتحرك فيه المسلم في التزامه الإسلامي العملي ،سواء أكان رجلاً أم امرأة .
تطهير أهل البيت
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} .
هناك نقاط في البحث في هذه الآية:
1 من هم أهل البيت ؟قيل إن المراد بهم أزواج النبي( ص ) ،روى ذلك الطبري في تفسيره عن علقمة قال: كان عكرمة ينادي في السوق{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلّم خاصة[ 1] .وقد يقال إن ما يؤيده هو سياق الآية التي وردت في أجواء الآيات المتعلقة بهن ،في ما قبلها وبعدها ،ما يجعل الظهور بيّناً في هذا المعنى .
وقيل إن المراد بقوله «أهل البيت »: رسول الله( ص ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ،روى ذلك الطبري في تفسيره عن أبي سعيد الخدري ،قال: قال رسول الله( صلى الله عليه وسلّم ): نزلت هذه الآية في خمسة ،فيّ وفي علي رضي الله عنه وحسن رضي الله عنه وحسين رضي الله عنه وفاطمة رضي الله عنها{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[ 2] .
وروى ذلك عن أم سلمة قالت: كان النبي( ص ) عندي ،وعلي وفاطمة والحسن والحسين ،فجعلت لهم خزيرة فأكلوا وناموا وغطى عليهم عباءةً أو قطيفةً ،ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً[ 3] .
وفي رواية أخرى عنها ،أن هذه الآية نزلت في بيتها ،قالت: وأنا جالسة على باب البيت ،فقلت: أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟قال: إنك على خير أنت من أزواج النبي( ص ) قالت: وفي البيت رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين[ 4] .
والظاهر أن القول الثاني هو الأقرب للصواب والأرجح بحسب الدليل .فإن الرواية التي رواها عكرمة لم يسندها إلى رسول الله( ص ) في ما سمعه الراوي أو المسلمون منه ،فربما كانت رأياً شخصياً له على أساس اجتهادٍ خاص ،لم يأت عليه بدليل واضح لننظر فيه ،فلا يلزم غيره .بينما نجد الروايات الأخرى التي تؤكد القول الثاني مرويةً عن أم سلمة في ما سمعته من رسول الله( ص ) وفي ما نقلته من نزول الآية في بيتها أثناء وجود الرسول( ص ) فيه مع أهل بيته ،كما رواها غيرها عنه ،ما يجعل للتفسير أساساً ثابتاً من مصدر الرسالة الأوّل .
وإذا لاحظنا المسألة من جانب كثرة الأحاديث ووثاقتها ،فإننا نجد أن هذه الروايات تزيد على السبعين حديثاً ،من طرق المسلمين من أهل السنة أو من طرق المسلمين من الشيعة ،وربما زاد المرويّ منها عن طريق أهل السنة على ما ورد منها من طرق الشيعة ،فقد روتها كتب أهل السنة بطرق كثيرة عن أم سلمة وعائشة وأبي سعيد الخدري وسعد وواثلة بن الأسقع وأبي الحمراء وابن عباس وثوبان مولى النبي وعبد الله بن جعفر وعلي والحسن بن علي ،في قريب من أربعين حديثاً .
وروتها الشيعة عن علي والسجاد والباقر والصادق والرضا وأم سلمة وأبي ذر وأبي ليلى وأبي الأسود الدؤلي وعمرو بن ميمون الأودي وسعد بن أبي وقاص ،في بضعٍ وثلاثين طريقاً .
وعلى ضوء ذلك ،فإن الترجيح العلمي هو لهذه الروايات أمام تلك الرواية .أمّا مسألة السياق الظاهر في اختصاصها بنساء النبي ،فيردها أن هذه الأحاديث الكثيرة لم تتحدث من قريب أو من بعيد عن نزول هذه الآية مع الآيات الأخرى الواردة في خطاب أزواج النبي ،ولم يذكر ذلك أحدٌ من القائلين بالاختصاص ،بل كانت الأحاديث دالةً على نزول الآية وحدها ،ما يجعلها منفصلةً عن السياق بطبيعتها ،ولكنها وضعت في ضمنه للمناسبة .
وقد يبعّد الرأي الأول ،أن الاختصاص ووحدة السياق يفرضان أن يكون التعبير الخطابي بكلمة «عنكن » لا بكلمة «عنكم » .
وقد يذهب البعض إلى قولٍ ثالثٍ ،وهو شمول الآية لأزواج النبي بالإضافة إلى أهل البيت ،ولكن الروايات الواردة عن أم سلمة تنفي ذلك ،كما جاء عنها أنها عندما تساءلت عن شمولها لها قال لها النبي( ص ): إنك على خير ،ولكن المراد بها هم هؤلاء الأشخاص المميزون بأسمائهم ،كما أن الروايات تؤكد على الاختصاص .
ولعلّ كلمة أهل البيت تحوّلت إلى مصطلحٍ خاص بهؤلاء الأشخاص على لسان النبي( ص ) ولسان المسلمين من بعده ،حتى أصبحت تنصرف إليهم بشكلٍ سريع من دون أيّ التباس ،حتى أنها لا تشمل بقية أقربائه مع شمول الكلمة لهم بحسب العرف العام .
وقد جاء في صحيح مسلم بإسناده عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله:"ألا إني تارك فيكم ثقلين ؛أحدهما كتاب الله عز وجل هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ،ومن تركه كان على ضلالة ،فقلنا: من أهل بيته نساؤه ؟قال:لا وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده[ 5] .
2ما معنى الرجس ؟الرجس في اللغة هو الشيء القذر ،الذي قد يتعلق بالجسد ونحوه من الأشياء المادية ،كما قد يتعلق بالجانب المعنوي من الشخصية ،فقد عبر الله عن لحم الخنزير بأنه رجس، كما عبّر عن الشرك والكفر وأثر العمل السيِّىء في قوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [ التوبة:125] .وفي قوله تعالى:{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [ الأنعام:125] .
وفي ضوء ذلك ،فإن الظاهر إرادة الملكات الأخلاقية السلبية التي تمثل قذارة الروح ،كما يمكن أن تطل الكلمة على معنى آخر ،وهو الأخطاء الفكرية في إدراك الأمور ،في ما يمكن أن تحمله الكلمة من إيحاءات تلتقي بالعصمة الذاتية التي هي لطفٌ إلهيٌّ يثيره الله في داخل النفس ،فيمنعه من باطل الاعتقاد وسيّىء العمل ،من خلال ما توحي به كلمة القذارة من المعنى الموجب للتنفّر والبعد عن الشيء والاجتناب عنه .
3دلالة الآية على عصمة أهل البيت: إن الشيعة الإمامية استدلوا بهذه الآية على العصمة ،لأن اللاّم في الكلمة للجنس ،ما يجعلها شاملةً لكل ما يوجب الخلل في الشخصية مما يوجب النفور منها ،في ما تنحرف به ،وتخطىء فيه ،فتكون دالةً على تعلّق إرادة الله بإزالة كل الجذور العميقة التي تقود إلى الانحراف ،أو تدفع إلى الخطأ .
وربما يذكر البعض بأن المراد هو تعلق الإرادة الإلهية بالاستقامة على خط التقوى ،في ما يريده لكل الناس ،أو التشديد في التكاليف ،ما يجعل المسألة مربوطةً بالالتزام ،لا بالعصمة ،فإن الله جعل شريعته وسيلةً لتطهير الناس وإذهاب الرجس عنهم ،فلا تكون لها أيّة خصوصية في هذا المجال .ولكن هناك نقطةً مهمّةً في هذا الموضوع ،وهي أن الآية مختصة بأهل البيت كما أنها شاملة للنبي محمد( ص ) ،ما يوحي بأن هناك خصوصية في المسألة تختلف عن الوضع العام الذي يتعلق بالناس بشكل عامّ ،لا سيّما في ما يتعلق بمقام النبي( ص ) .
وفي ضوء ذلك ،تكون الإِرادة الإلهيةهي الإرادة التكوينية التي تتدخل في تكوين الخصائص الذاتية في داخل الذات ،ما يحقق للشخصية ملكاتٍ روحيةٍ ثابتةٍ متحركةٍ في اتجاه إيجاد الجوّ الفكري والروحي ،الذي يدفع إلى اختيار الحق في القول والفكر والعمل ،لا الإرادة التشريعية التي تقتصر على توجيه التكاليف .
وهناك أبحاثٌ واسعةٌ في مسألة العصمة ،في دليليها العقلي والنقلي ،وفي بعض فروعها الفكرية ،لا يتسع لها المجال التفسيري ،فلتطلب في مظانّها من أبحاث علم الكلام .