قوله:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}{قَرْنَ} ،من القرار .والأصل ،اقْرَرْنَ بفتح الراء ،فحذفت الراء الأولى تخفيفا ونقلت حركتها إلى القاف وحذفت الألف لتحرك القاف فصارت قََرْنَ .
والخطاب ،وإنْ كان لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فإن حكمه يعم النساء جميعا .والمعنى: الْزَمْنَ القرار في بيوتكن ولا تخرجن إلا لحاجة .ومن الحوائج المشروعة التي تجوز الخروج للنساء ،خروجهن للصلاة في المسجد .وفي الخبر:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله "وفي رواية:"وبيوتهن خير لهن ".
ومن جملة الحوائج ،خروجها فيطلب العلم .فإن طلب العلم فريضة على المسلمين ولا مناص لها من الخروج إذا أرادت أن تشهد مجالس العلم أو تنهل من مناهله ؛إذ تلقاه من أهله .
ومنها: خروجها لمشاهدة أولي القربى والأرحام كالآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وغيرهم من أولي القربى .
ومنها: خروجهن لتطبيب أنفسهن أو مداواة أولادهن أو قضاء حوائج أبنائهن وبناتهن ،التي لا يُحسِن القيام بها غيرهن .
ومنها: خروجهن في طلب الرزق إذا لم يكن لهن من يضطلع بالإنفاق عليهن نفقة كافية تحقق لها البحبوحة والسعة .
قوله:{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} التبرج ،إظهار الزينة والمحاسن للرجال{[3740]} واختلفوا في المراد بالجاهلية الأولى .والأظهر أنها جاهلية الكفر قبل الإسلام .وأن الجاهلية الأخرى هي جاهلية الفسوق والفجور والضلال والبعد عن منهج الله عقب غياب الإسلام .
وصور الجاهلية من الضلال والكفر والجحود كثيرة ومغالية ومفْرِطة .إنها كثيرة وفادحة ومفحشة فحشا فاق كل تصور .لقد برعت الجاهلية في الزمان الراهن في ابتداع الضلال والفسق واصطناع الأساليب والظواهر المختلفة من الفساد والغواية التي تهوي بالأفراد والمجتمعات في مستنقع الرجس والدنس ،وتنزلق بهم إلى كحمأة الرذيلة والفواحشوالخنا .ويأتي في طليعة ذلك كله ظاهرة التبرج في أفحش صوره في المغالاة والإسفاف والابتذال مما يفضي بالضرورة إلى الفتنة والسقوط في الدركات من القَذَر والانحطاط ،ولقد أسهم في إشاعة هذه الخسيسة الذميمة من التبرج ،تلك الأسباب المسخرة من وسائل الإعلام .وهي وسائل الإعلام .وهي وسائل كثيرة ومختلفة ولها من بالغ التأثير في سلوك المجتمعات ما أثار فيها الفتة وألْهَبَ فيها الشهوات والغرائز أيما إلْهاب .
لقد أسهمت أسباب الإعلام الكثيرة والمختلفة بلغ الإسهام في إذكاء الغريزة والفسق ،وإشاعة الفجور والتهتك ،وإثارة الهوى والشهوة لتظل على الدوام متأججة ومضطربة ومشوبة .
وهذه هي الحضارة المادية الحديثة بجحودها وتحللها وعتوها وتمردها على منهج الله ،تُحرّض على التبرج الفاحش والزراية المُسفّة ،والابتذال المُستقذر .كتبرج العاريات في الشوارع والمنازل والأندية ،وفي بيوت العلم ودوائر الدولة ،وسائر المحافل الرسمية والشعبية .ثم التبرج على المسارح وفي دور الملاهي حيث الانفلات الكامل من ربقة القيم والعفة ،وحيث العري والتهتك والسقوط ،والتحلل المذهل من كل الضوابط التي قررتها شرائع السماء ،ونطقت به فطرة الإنسان السوي .تلك هي الجاهلية المظلمة التي طغت على البشرية عقب غياب الإسلام .جاهلية المادية الثقيلة الصماء حيث الشهوات والأهواء وحيث الأنانيات والغرائز المحمومة وظلم الإنسان للإنسان .
قوله:{وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ} أمرهن بإقامة أعظم فريضة وهي الصلاة المفروضة ،وأن يؤدين الزكاة الواجبة في أموالهن .
قوله:{وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أمرهن بالعام بعد الخاص .فقد أمرهن ههنا بسائر الطاعات .
قوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} إنما يريد الله مما نهاكنّ وأمركنّ ووعظكنّ أن يذهب عنكن الإثم والفحشاء{أَهْلَ الْبَيْتِ}{أهل} منصوب على المدح ،أو على النداء{[3741]} أي يا أهل بيت محمد ،وأن يطهركم من السوء والدنس تطهيرا .
واختلفوا في المراد بأهل البيت .فقيل: محمد صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم ؛فقد أخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرّ بباب فاطمة ( رضي الله عنها ) ستة أشهر إذْ خرج إلى صلاة الفجر يقول:"الصلاة يا أهل البيت{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}".
وقيل: إن المراد بأهل البيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ؛لأن الآية نزلت فيهن خاصة .والصحيح أن المراد نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأهله الذين هم أهل بيته .فنساء النبي سبب في نزول الآية ،وسبب النزول داخل فيه مع غيره .فيكون المراد عموم زوجات الرسول وأهله .