والمراد بالذين كفروا في قوله- تعالى-:هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ مشركو قريش، الذين منعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم من دخول مكة، ومن الطواف بالبيت الحرام.
والهدى:مصدر بمعنى المفعول، أى:المهدى، والمقصود به ما يهدى إلى بيت الله الحرام من الإبل والبقر والغنم، ليذبح تقربا إلى الله- تعالى- وكان مع المسلمين في رحلتهم هذه التي تم فيها صلح الحديبية سبعون بدنة- على المشهور-. ولفظ الهدى قرأه الجمهور بالنصب عطفا على الضمير المنصوب في قوله:صَدُّوكُمْ وقرأه أبو عمرو بالجر عطفا على المسجد..
وقوله:مَعْكُوفاً أى:محبوسا. يقال:عكفه يعكفه عكفا، إذا حبسه ومنه الاعتكاف في المسجد، بمعنى الاحتباس فيه، وهو حال من الهدى.
وقوله:أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ منصوب بنزع الخافض، أى:عن أن يبلغ محله، أى:مكانه الذي يذبح فيه وهو منى.
والتعبير بقوله:هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. تصريح بذمهم وتوبيخهم على موقفهم المشين من المؤمنين، الذين لم يأتوا إلى مكة لحرب، وإنما أتوا لأداء شعيرة من شعائر الله.
أى:هم في ميزان الله واعتباره الكافرون حقا. لأنهم صدوكم ومنعوكم- أيها المؤمنون- عن دخول المسجد الحرام، وعن الطواف به، ولم يكتفوا بذلك، بل منعوا الهدى المحبوس من أجل ذبحه على سبيل التقرب به إلى الله- تعالى- من الوصول إلى محله الذي يذبح فيه في العادة وهو منى.
قال القرطبي ما ملخصه:«قوله:وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أى:محبوسا..... أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. أى:منحره.. والمحل- بالكسر- غاية الشيء، وبالفتح:هو الموضع الذي يحله الناس، وكان الهدى سبعين بدنة، ولكن الله- تعالى- بفضله جعل ذلك الموضع- وهو الحديبية- له محلا.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال:نحرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة ...
وفي البخاري عن ابن عمر قال:خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدنة وحلق رأسه..» .
وقوله- تعالى-:وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... بيان لحكمة الله- تعالى- في منع الحرب بين الفريقين.
وجواب «لولا» محذوف لدلالة الكلام عليه. والمراد بالرجال المؤمنين وبالنساء المؤمنات:
سبع رجال وامرأتان كانوا بمكة.
قال الآلوسى:«وكانوا على ما أخرج أبو نعيم بسند جيد وغيره عن أبى جمعة جنبذ بن سبع- تسعة نفر:سبعة رجال- وهو منهم- وامرأتين.
وجملة لَمْ تَعْلَمُوهُمْ صفة رجال ونساء على تغليب المذكر على المؤنث.
وقوله أَنْ تَطَؤُهُمْ بدل اشتمال من رجال ونساء، والوطء الدّوس، والمراد به هنا الإهلاك. وقوله:مَعَرَّةٌ أى:مكروه وأذى. يقال:عرّه يعره عرّا، إذا أصابه بمكروه، وأصله من العرّ وهو الجرب.
والمراد به هنا:تعيير الكفار للمؤمنين بقولهم:لقد قتلتم من هم على دينكم.
والمعنى:ولولا كراهة أن تهلكوا- أيها المؤمنين- أناسا مؤمنين موجودين في مكة بين كفارها، وأنتم لا تعرفونهم، فيصيبكم بسبب إهلاكهم مكروه، لولا كل ذلك لما كف أيديكم عن كفار مكة، بل لسلطكم عليهم لكي تقتلوهم.
واللام في قوله- سبحانه-:لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ متعلقة بما يدل عليه جواب لولا المقدر.
أى:لولا ذلك لما كف أيديكم عن كفار مكة، ولكنه- سبحانه- كف أيديكم عنهم، ليدخل في رحمته بسبب هذا الكف من يشاء من عباده، وعلى رأس هؤلاء العباد، المؤمنون والمؤمنات الذين كانوا في مكة، والذين اقتضت رحمته أن يتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار، ويفك أسرهم، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب ...
كذلك قد شملت رحمته- تعالى- بعض كفار مكة، الذين تركوا بعد ذلك الكفر ودخلوا في الإسلام، كأبى سفيان وغيره من الذين أسلموا بعد فتح مكة أو بعد صلح الحديبية.
وقوله- سبحانه-:لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً تأكيد لما دل عليه الكلام السابق، من أن حكمته- تعالى- قد اقتضت كف أيدى المؤمنين عن الكافرين، رحمة بالمؤمنين الذين يعيشون في مكة مع هؤلاء الكافرين.
وقوله تَزَيَّلُوا أى:تميّزوا. يقال:زلته زيلا، أى:مزته، وزيله فتزيل أى:فرقه فتفرق أى:لو تميز هؤلاء المؤمنون والمؤمنات الذين يعيشون في مكة عن كفارها وفارقوهم وخرجوا منها، وانعزلوا عنهم، لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما، تارة عن طريق إهلاكهم، وتارة عن طريق إذلالهم وأخذهم أسرى، و «من» في قوله مِنْهُمْ للبيان لا للتبعيض.