وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى لطيفة أُخرى تتعلّق بمسألة صلح الحديبيّة وحكمتها إذ تقول الآية: ( هم الذين كفروا وصدّوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله ){[4561]} .
كان أحد ذنوبهم كفرهم ،والذنب الآخر صدّهم إيّاكم عن العُمرة زيارة بيت الله ولم يجيزوا أن تنحروا الهدي في محله ،أي مكّة ( الهدي في العمرة ينحر [ أو يذبح] في مكّة وفي الحج بمنى ) على حين ينبغي أن يكون بيت الله للجميع وصدّ المؤمنين عنه من أعظم الكبائر ،كما يصرّح القرآن بذلك في مكان آخر من سورة البقرة: ( ومن أظلم ممّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ){[4562]} .
ومثل هذه الذنوب يستوجب أن يسلّطكم الله عليهم لتعاقبوهم بشدّة !لكنّ الله تعالى لم يفعل ذلك فلماذا ؟!ذيل الآية يبيّن السبب بوضوح إذ يقول: ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرّة بغير علم ){[4563]} ..
وهذه الآية تشير إلى طائفة ( من الرجال والنساء ) المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في مكّة ولم يهاجروا إلى المدينة لأسباب خاصة .
فلو قاتل المسلمون أهل مكّة لأوقعوا أرواح هؤلاء المستضعفين في خطر ولامتدت ألسنة المشركين بالقول: إنّ جنود الإسلام لم يرحموا لا أعداءهم ومخالفيهم ولا أتباعهم ومؤالفيهم ،وهذا عيب وعار كبير !
وقال بعضهم أيضاً ،إنّ المراد من هذا العيب لزوم الكفارة ودية قتل الخطأ ،لكنّ المعنى الأوّل أكثر مناسبةً ظاهراً .
«المعرّة » من مادة «عرّ » على زنة «شرّ » «والعرّ على زنة الحر » في الأصل معناه مرض الجرب وهو من الأمراض الجلدية التي تصيب الحيوانات أو الإنسان أحياناً ثمّ توسّعوا في المعنى فأطلقوا هذا اللفظ على كلّ ضرر يصيب الإنسان .
ولإكمال الموضوع تضيف الآية: ( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) .
أجل ،كان الله يريد للمستضعفين المؤمنين من أهل مكّة أن تشملهم الرحمة ولا تنالهم أية صدمة ..
كما يرد هذا الاحتمال أيضاً وهو أنّ أحد أهداف صلح الحديبيّة أنّ من المشركين من فيه قابلية الهداية فيهتدي ببركة هذا الصلح ويدخل في رحمة الله .
والتعبير ب «من يشاء » يراد منه الذين فيهم اللياقة والجدارة ،لأنّ مشيئة الله تنبع من حكمته دائماً ،والحكيم لا يشاء إلاّ بدليل ولا يعمل عملاً دون دقّة وحساب ..
ولمزيد التأكيد تضيف الآية الكريمة: ( لو تزيلوا لعذّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً ) أي لو افترقت وانفصلت صفوف المؤمنين والكفار في مكّة ولم يكن هناك خطر على المؤمنين لعذّبنا الكفار بأيديكم عذاباً أليماً .
صحيح أنّ الله قادر على أن يفصل هذه الجماعة عن الآخرين عن طريق الإعجاز ،ولكنّ سنّة اللهفي ما عدا الموارد الاستثنائيةأن تكون الأُمور وفقاً للأسباب العاديّة .
جملة «تزيلوا » من مادة زوال ،وهنا معناها الانفصال والتفرّق .
ويستفاد من روايات متعدّدة منقولة عن طرق الشيعة والسنّة حول ذيل هذه الآية أنّ المراد منها أفراد مؤمنون كانوا في أصلاب الكافرين والله سبحانه لأجل هؤلاء لم يعذّب الكافرين ..
ومن جملة هذه الروايات نقرأ في الرواية أنّه سأل رجلٌ الإمام الصادق ( عليه السلام ): ألم يكن علي ( عليه السلام ) قوياً في دين الله ؟قال ( عليه السلام ): بلى .فقال: فعلام إذ سُلّط على قوم ( في الجمل ) لم يفتك بهم فما كان منعه من ذلك ؟!
فقال الإمام: آية في القرآن !
فقال الرجل: وأية آية ؟!
فقال الصادق ( عليه السلام ) قوله تعالى: ( لو تزيلوا لعذّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً ) ..ثمّ أضاف ( عليه السلام ): أنّه كان لله عزَّ وجلَّ ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين ،ولم يكن علي ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع ..وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبداً حتى تظهر ودائع الله عزَّ وجلّ{[4564]} .
أي أن اللّه سبحانه يعلم أنّ جماعة سيولدون منهم في ما بعد وسيؤمنون عن اختيارهم وإرادتهم ولأجلهم لم يعذب اللّه أباءهم وقد أورد هذا القرطبي في تفسيره بعبارة اُخرى .
ولا يمنع أن تكون الآية مشيرة إلى المؤمنين المختلطين بالكفّار في مكّة وإلى المؤمنين الذين هم في أصلاب الكافرين وسيولدون في ما بعد !..