واللطيفة الأُخرى التي بيّنتها هذه الآيات أنّها قالت: ( وهو الذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكّة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً ) .
حقاً ..كان ما حدث مصداقاً جليّاً «للفتح المبين » ونعمَ ما اختاره القرآن له من وصف ،فالعدوّ الذي زحف بجيشه مراراً نحو المدينة وسعى سعياً عجيباً لإيقاع الهزيمة بالمسلمين ،إلاّ أنّه الآن حيث حطّوا أقدامهم في حريمه ودياره يمتلكه الرعب منهم حتى أنّه يقترح الصلح معهم ،فأيّ فتح مبين أكبر من هذا الفتح إذ ينال المسلمون هذا التفوّق على العدو دون أن تسفك قطرة دم واحدة من المسلمين !؟
ولا شكّ أنّ ما جرى في الحديبيّة كان يعدّ في جزيرة العرب عامة نصراً للمسلمين وهزيمة لقريش .
هذا وقد ذكر جماعة من المفسّرين في نزول هذه الآية أنّ مشركي مكّة عبّؤوا أربعين رجلاً للهجوم على المسلمين ( بصورة خفية ) في الحديبيّة ،غير أنّ المسلمين أفشلوا مؤامرتهم وأجهضوا مكيدتهمبفطنتهمفأسر المسلمون هؤلاء الأربعين جميعاً وجاءوا بهم إلى النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فخلّى عنهم سبيلهم .
وقال بعضهم: أنّهم كانوا ثمانين أرادوا أن يهجموا على المسلمين من جبل التنعيم عند صلاة الغداة وبالاستفادة من العتمة ،وقال بعضهم: كان النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )يستظلّ تحت الشجرة ليكتب معاهدة الصلح مع ممثل قريش وعلي مشغول بالإملاء ،فحمل عليه ثلاثون شابّاً من أهل مكّة بأسلحتهم ولكن بمعجزة مذهلة فشلت خطتهم وأُسر جميعهم وخلّى النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عنهم سبيلهم{[4560]} .
وطبقاً لشأن النّزول هذا فإنّ جملة ( من بعد أن أظفركم عليهم ) إشارة إلى الانتصار على هذه الطائفة ،في حين أنّه طبقاً للتفسير السابق يكون المقصود هو النصر الكلّي للمسلمين على المشركين وهذا التّفسير أكثر انسجاماً مع مفاد الآية ..
ممّا يستلفت النظر أنّ القرآن يؤكّد على عدم القتال في بطن مكّة ،وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى لطيفتين:
الأولى: إنّ مكّة كانت مركزاً لقوّة العدو ،وعلى القاعدة كان على أهل مكّة [ المشركين] أن يغتنموا الفرصة المناسبة فيحملوا على المسلمين فقد كانوا يبحثون عنهم وعن فرصة للقضاء عليهم فإذا هم في دارهم وفي قبضتهم فما كان ينبغي أن يتركوا هذه الفرصة بهذه البساطة ،لكنّ الله سلب عنهم قدرتهم وصرفهم عنهم !
الثانية: إنّ مكّة كانت حرم الله الآمن .فلو وقع القتال فيها لسالت الدماء فتهتك حرمة الحرم من جانب ،وتكون عاراً على المسلمين وعيباً أيضاً .إذ سلبوا أمن هذه الأرض المقدّسة ،ولذلك فإنّ من نِعَم الله على نبيّه ( صلى الله عليه وآله وسلم )وعلى المسلمين أنّه وبعد هذه القضية بسنتين فتح عليهم مكّة وكان ذلك من دون سفك دم أيضاً ..