هذه الآيات الكريمة تصور لنا ما جبل عليه بنو إسرائيل من جبن شديد، وعزيمة خوارة، وعصيان لرسلهم. وإيثار للذلة مع الراحة على العزة مع الجهاد وهي تحكى بأسلوبها البليغ قصة تاريخية معروفة، وملخص هذه القصة:
أن بنى إسرائيل بعد أن ساروا مع نبيهم موسى- عليه السلام- إلى بلاد الشام، عقب غرق فرعون أمام أعينهم. أوحى الله- تعالى- إلى موسى أن يختار من قومه اثنى عشر نقيبا، وأمره أن يرسلهم إلى الأرض المقدسة التي كان يسكنها الكنعانيون حينئذ. ليتحسسوا أحوال سكانها، وليعرفوا شيئا من أخبارهم.
وقد أشار القرآن قبل ذلك إلى هذه القصة بقوله:وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً .
ولقد نفذ موسى- عليه السلام- ما أمره به ربه- سبحانه-، وكان مما قاله موسى للنقباء
عند إرسالهم لمعرفة أحوال سكان الأرض المقدسة:«لا تخبروا أحدا سواي عما ترونه» .
فلما دخل النقباء الأرض المقدسة، واطلعوا على أحوال سكانها. وجدوا منهم قوة عظيمة، وأجساما ضخمة.. فعاد النقباء إلى موسى وقالوا له- وهو في جماعة من بنى إسرائيل-:قد جئنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها، فإذا هي في الحقيقة تدر لبنا وعسلا، وهذا شيء من ثمارها، غير أن الساكنين فيها أقوياء، ومدينتهم حصينة. وأخذ كل نقيب منهم ينهى سبطه عن القتال.
إلا اثنين منهم، فإنهما نصحا القوم بطاعة نبيهم موسى- عليه السلام- وبقتال الكنعانيين معه.
ولكن بنى إسرائيل عصوا أمر هذين النقيبين، وأطاعوا أمر بقية النقباء العشرة «وأصروا على عدم الجهاد، ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا:يا ليتنا متنا في مصر أو في هذه البرية.
وحاول موسى- عليه السلام- أن يصدهم عما تردوا فيه من جبن وعصيان وأن يحملهم على قتال الجبارين ولكنهم عموا وصموا.
وأوحى الله- تعالى- إلى موسى أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض جزاء عصيانهم وجبنهم.
هذا هو ملخص هذه القصة كما وردت في كتب التفسير والتاريخ. وقد حشا بعض المفسرين كتبهم بأوصاف للجبارين- الذين ورد ذكرهم في الآيات الكريمة- لا تقبلها العقول السليمة، وليس لها أصل يعتمد عليه بل هي مما يستحى من ذكره كما قال ابن كثير .
هذا، وقوله- تعالى-:وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ كلام مستأنف ساقه الله- تعالى- لبيان بعض ما فعله بنو إسرائيل من رذائل بعد أخذ الميثاق عليهم، وتفصيل لكيفية نقضهم لهذا الميثاق.
وإِذْ ظرف للزمن الماضي بمعنى وقت. وهو مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام، تقديره اذكر. وقد خوطب بهذا الفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطريق قرينة الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب، ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من جنايات.
أى:واذكر يا محمد لهؤلاء اليهود المعاصرين لك، قول موسى لآبائهم على سبيل النصح والإرشاد:يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم. أى:تذكروا إنعامه عليكم بالشكر والطاعة.
والمراد بذكر الوقت تذكر ما حدث فيه من وقائع وخطوب.
قال أبو السعود:وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت، دون ما وقع فيه من حوادث، - مع أنها هي المقصودة، لأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلا فإذا استحضر كان ما وقع فيه بتفاصيله كأنه مشاهد عيانا».
وفي قول موسى لهم- كما حكى القرآن عنه-:يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تلطف معهم في الخطاب، وحمل لهم على شكر النعمة، واستعمالها فيما خلقت له لكي يزيدهم الله منها. وفيه كذلك تذكير لهم بما يربطهم به من رابطة الدم والقرابة التي تجعله منهم، يهمه ما يهمهم، ويسعده ما يسعدهم، فهو يوجه إليهم ما هو كائن لهدايتهم وسعادتهم.
وقوله- تعالى-:إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ بيان لنعم ثلاث أسبغها الله عليهم.
أما النعمة الأولى:فهي جعل كثير من الأنبياء فيهم كموسى وهارون، واسحق،، ويعقوب، ويوسف، - عليهم السلام-. وقد أرسل الله- تعالى- هؤلاء الأنبياء وغيرهم في بنى إسرائيل، لكي يخرجوهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، إلى نور الهداية والطاعة والإيمان.
والتنكير في قوله أَنْبِياءَ للتكثير والتعظيم. أى:تذكروا يا بنى إسرائيل نعم الله عليكم، وأحسنوا شكرها، حيث جعل فيكم أنبياء كثيرين يهدونكم إلى الرشد.
قال صاحب الكشاف:«لم يبعث الله في أمة ما بعث في بنى إسرائيل من الأنبياء».
وأما النعمة الثانية:فهي جعلهم ملوكا. أى:جعلكم أحرارا تملكون أمر أنفسكم بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه، الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب.
أى:جعلكم تملكون المساكن وتستعملون الخدم، بعد أن كنتم لا تملكون شيئا من ذلك وأنتم تحت سيطرة فرعون وقومه.
قال الآلوسى:«أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل فقال:ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله:ألك زوجة تأوى إليها؟ قال:نعم، قال:ألك مسكن تسكنه؟
قال:نعم. قال:فأنت من الأغنياء. قال الرجل:فإن لي خادما. قال عبد الله:فأنت من الملوك.
واخرج ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدري قال:قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا».
وهذه النعمة- أى:نعمة الحرية بعد الذل، والسعة بعد الضيق- من النعم العظمى التي لا يقدرها ويحافظ عليها إلا أصحاب النفوس الكبيرة، التي تعاف الظلم، وتأبى الضيم، وتحسن الشكر لله- تعالى-.
قال صاحب الانتصاف:فإن قلت:فلماذا لم يقل إذ جعلكم أنبياء، كما قال:وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً؟ قلت. لأن النبوة مزية غير الملك. وآحاد الناس يشارك الملك في كثير مما به صار الملك ملكا، ولا كذلك النبوة، فإن درجتها أرفع من أن يشرك من لم تثبت له مع الثابتة نبوته في مزيتها وخصوصيتها ونعتها، فهذا هو سر تمييز الأنبياء وتعميم الملوك».
وأما النعمة الثالثة:فهي أنه- سبحانه-:آتاهم من ألوان الإكرام والمنن ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانهم. فقد فلق لهم البحر فساروا في طريق يابس حتى نجوا وغرق عدوهم. وأنزل عليهم المن والسلوى ليأكلوا من الطيبات، وفجر لهم من الحجر اثنتي عشرة عينا حتى يعلم كل أناس مشربهم.. إلى غير ذلك من ألوان النعم التي حباهم الله- تعالى- بها، والتي كانت تستلزم منهم المبادرة إلى امتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
قال الآلوسى:و «أل» في الْعالَمِينَ للعهد:والمراد عالمو زمانهم. أو للاستغراق.
والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل:وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية، لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبنى إسرائيل، فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم» .