صورة من صور انحراف بني إسرائيل
وهذه صورةٌ حيّةٌ من صور هذا الشعب المنحرف من بني إسرائيل ،بعد أن خلّصهم الله من فرعون على يد نبيّه موسى( ع ) الذي كان واحداً منهم أرسله إليهم واصطفاه برسالته ،ليحرّرهم من العبوديّة المتعمِّقة في داخلهم من جرّاء استضعاف فرعون لهم ،وذلك عبر قيم الحريّة المتمثِّلة في توحيد الله ،والكفر بكل الطغاة والجبابرة من آلهة البشر ،والشعور بالمعنى الإنساني الحرِّ لوجودهم ..
وانطلق معهم نبيّهم موسى( ع ) بأسلوب الرسالة الَّذي يخاطب فيهم إنسانيتهم ،ليوحي إليهم بحسّ الكرامة في ذاتهم ،ويعلمهم أنَّ العقيدة والالتزام والطّاعة كلّها لا تمثّل تعليمات يصدرها الكبار إليهم كما تعوّدوا في عهد عبوديتهم لفرعون ،بل هي فكرةٌ وإرادةٌ ومعاناة ،وحركةٌ داخليّةٌ تنطلق في رحاب الكون ،ليتحول جهدها كله إلى فعل إيمان .ولذلك كان يدعوهم إلى التأمُّل والتفكُّر والتذكُّر والقراءة والحوار ..
وهو قد خاض معهم الحوار في كل ما يطرأ عليهم من مشاكل ،ليعلّمهم كيف يفكرون ،وكيف يشاركونه الفكر ،ولكنَّهم كانوا يبتعدون عنه كلما اقترب إليهم ،وبدأوا يتمرّدون عليه في أكثر من موقف ،وذلك بسبب ما اعتادوا عليه من عبوديّة ،فكانوا ينتظرون منه( ع ) أن يعاملهم كما عاملهم فرعون ،فيستضعفهم ويستعبدهم من خلال حكمه ،كي يشعروا بالاستقرار ،وكانوا يعتبرون أنَّ معنى خلاصهم من فرعون ،هو أن يعيشوا حالة استرخاء ودعة وطمأنينة بعيداً عن كل أجواء الصراع ومشاكله ،فلم يكونوا مستعدين للقتال ،بل كانوا يتحفزون للهرب عند أول دعوة للمعركة ،ولكنَّ شخصيّة الرسول( ص ) لا تلتقي بشخصيَّة فرعون من قريب أو من بعيد ،فإنَّ هناك فرقاً بين من يريد النَّاس لنفسه ،وبين من يريدهم لله ولأنفسهم من موقع صلاحهم ،ولهذا لم يستطع موسى( ع ) النجاح معهم ،ولم يكن من خطّته أن يحقق النّجاح على هذا المستوى ،لأنَّه كان يعمل على تغيير مفاهيمهم وروحيتهم وطريقتهم في التفكير والعمل .ولذلك كانت الموعظة الهادئة والانسجام مع مطاليبهم والعفو عن خطاياهم معه هو السبيل إلى الوصول إلى بعض هذا الهدف الَّذي استطاع أن يعطي الساحة بعض النماذج الّتي ارتفعت إلى مستوى الرسالة فعاشت مع موسى آفاقه وأحلامه ...
وتمثِّل هذه الآيات أحد نماذج أسلوب موسى معهم في الحوار ،وأسلوبهم في الهزيمة النفسيّة والتمرُّد عليه .{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} [ المائدة:20] فهو دعاهم إلى فترة من التأمُّل ،ليستعيدوا فيها تاريخهم المظلم الغارق بالعبوديّة والظلام ،وليقارنوا بينه وبين تاريخهم الجديد الَّذي منحهم الله فيه الحريّة على يد رسوله بالمعجزات الخارقة ،وجعل منهم أنبياء فأكرمهم برسالته ،وصيّرهم ملوكاً ،ورزقهم من النعم ما لم يؤته لأحد من العالمين الَّذين عاصروهم .وقد كانت هذه الدعوى منه كي يواجهوا الحاضر والمستقبل من هذا الموقع ،ليرتفعوا إلى المستوى الَّذي أراد الله أن يرفعهم إليه ،فيتحملوا مسؤوليّة الرسالة معه ،ويعملوا على التحرك من أجل التغيير بقيادته .