/م20
قال عز وجل:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ} أي واذكر أيها الرسول لبني إسرائيل وسائر الناس الذين تبلغهم دعوة القرآن إذ قال موسى لقومه بعد أن أنقدهم من ظلم فرعون وقومه وأخرجهم من أرض العبودية:اذكروا نعمة الله عليكم بالشكر له والطاعة لأن ذلك يوجب المزيد ، وتركه يوجب المؤاخذة والعذاب الشديد:ولفظ نعمة يفيد العموم بإضافته إلى اسم الله تعالى ، وقد بين لهم موسى مراده بهذا العموم بذكر ثلاثة أشياء كانت بالفعل ، بعد نعمة إنقاذهم من المصريين التي هي بمعنى النفي والسلب ، وهذه الأشياء الحاصلة المشهودة هي أعظم أركان النعم ومجامعها التي يندرج فيها ما لا يحصى من الجزئيات الدينية والدنيوية ، وهاك بيانها:
الأول:- وهو أشرفها – جعل كثير من الأنبياء فيهم .وهذا يصدق بوجود المبلغ لذلك ووجود أخيه هارون ومن كان قبلهما عليهم السلام ، وتشعر العبارة مع ذلك بأن النعمة أوسع ، وأن عدد هؤلاء الأنبياء كثير أو سيكون كثيرا ، بناء على أن المراد بالجعل بيان الشأن ، لا مجرد الحصول بالفعل في الزمنين الماضي والحال ، وقيل:كان عدد الأنبياء فيهم كثيرا في عهد موسى ، حتى حكى ابن جرير أن السبعين الذين اختارهم موسى ليصعدوا معه الجبل إذ يصعده لمناجاة الله تعالى صاروا كلهم أنبياء .
والمشهور من معنى النبوة عند أهل الكتاب الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع في المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل .وكان جميع أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى مؤيدين للتوراة عاملين وحاكمين بها حتى المسيح عليهم السلام .وللنصارى تحكم في إثبات النبوة ونفيها عمن شاءوا من أنبياء بني إسرائيل حتى أنهم لا يعدون سليمان بن داود نبيا ! ! بل حكيما أي فيلسوفا ، على أن كتبه هي أعلى كتبهم المقدسة علما وحكمة ، فهي أعلى من حكم الأناجيل التي عندهم ، وقد كان هذا مما ينتقده عامتهم على رؤساء كنيستهم ، حتى قال أحد الأذكياء اللبنانيين:إن الكنيسة لم تعترف بنبوة سليمان ليكون منتهى مبالغة المعجبين بحكمه وأمثاله من أهل الفهم أن يرفعوه إلى مرتبة النبوة فيبقى دون المسيح ، وإن رؤساء الكنيسة كانوا يخشون أن يقول الناس:إنه أحق من المسيح بالألوهية ، إذا هم اعترفوا له بالنبوة .أما علماء المسلمين الذين تكلموا في المفاضلة بين الأنبياء فقد فضلوا المسيح على سليمان فهو عندهم في المرتبة الرابعة بعد محمد وإبراهيم وموسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وقد تقدم القول في المفاضلة في أواخر تفسير سورة النساء .
الثاني:جعلهم ملوكا .لولا ما ورد في التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لكانت هذه النعمة موضع اشتباه عند المتأخرين الضعفاء في فهم العربية ، لأن بني إسرائيل لم يكن فيهم ملوك على عهد موسى وإنما كان أول ملوكهم – بالمعنى العرفي لكلمة ملك وملوك – شاول بن قيس ثم داود الذي جمع بين النبوة الملك .وإن من يفهم العربية حق الفهم يجزم بأنه ليس المراد أنه جعل أولئك المخاطبين رؤساء للأمم والشعوب ويسوسونها ويحكمون بينها ، ولا أنه جعل بعضهم ملوكا لأنه قال ( وجعلكم ملوكا ) ولم يقل:وجعل فيكم ملوكا .كما قال:جعل فيكم أنبياء ، فظاهر هذه العبارة أنهم كلهم صاروا ملوكا بعد أن كانوا كلهم عبيدا للقبط .بل معنى الملك هنا الحر المالك لأمر نفسه ، وتدبير أمر أهله ، فهو تعظيم لنعمة الحرية والاستقلال ، بعد ذلك الرق والاستعباد .يدل على ذلك التفسير المأثور ، ففي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا عند ابن أبي حاتم ( كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا ) وفي حديث زيد بن أسلم ( من كان له بيت وخادم فهو ملك ) رواه أبو داود في مراسيله تفسيرا الآية بلفظ ( زوجة ومسكن وخادم ) وروى ابن جرير مثله عن ابن عباس وعن مجاهد .وعن ابن عباس رواية أخرى سنأتي بنصها وقد صححوا سندها .والمرفوع ضعيف السند .والمعنى الجامع لهذه الأقوال ، أن المراد بالملك هنا الاستقلال الذاتي والتمتع بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية في التصرف وسياسة البيوت ، وهو مجاز تستعمله العرب إلى اليوم في جميع ما عرفنا من بلادهم .يقولون لمن كان مهنئا في معيشته ، مالكا لمسكنه ، مخدوما مع أهله:فلان ملك ، أو ملك زمانه ، أي يعيش عيشة الملوك .وترى مثل هذا الاستعمال المجازي في رؤيا يوحنا قال 1:6 ( وجعلنا ملوكا وكنهة ) .
وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى أنه جعلهم ملوكا بالقوة والاستعداد ، بما آتاهم من الحرية والاستقلال ، وشريعة التوراة العادلة التي يرتقون بها في مراقي الاجتماع وهو بشارة بأنه سيكون منهم ملوك بالفعل ، لأن ما استعدت له الأمة من ذلك في مجموعها ، لا بد أن يظهر أثره بعد ذلك في بعض أفرادها .وهذا المعنى لا يعارض ما قبله ، بل يجامعه ويتفق معه ، فإن تلك المعيشة المنزلية الراضية ، هي الأصل في الاستعداد لهذه العيشة الثانية ، - عيشة الملك والسلطة - .فإن الشعوب التي يفسد فيها نظام المعيشة المنزلية ، لا تكون أمما عزيزة قوية ، فهي إذا كان لها ملك تضيعه فكيف تكون أهلا لتأسيس ملك جديد ؟ فليعتبر المسلمون بهذا ، ولينظروا أين هم من المعيشة الأهلية لتي وصفناها !
الأمر الثالث:إيتاؤهم ما لم يؤت أحد من العالمين ، أي عالمي زمانهم وشعوبه التي كانت مستعبدة للملوك العتاة الطغاة كالقبط والبابليين .روى الفريابي وابنا جرير والمنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله ( إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ) قال:المرأة والخادم ( وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ) قال:الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ .وروى ابن جرير من طريق مجاهد عنه في الأخير أنه المن والسلوى .وروى هو وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد هذا المعنى مع زيادة الغمام الذي ظللهم في التيه .وزاد بعضهم الحجر الذي انبجست منه العيون بعدد أسباطهم ، رواه ابن جرير .وقد تقدم تفسير هذه الخصائص في سورة البقرة فيرجع في الجزء الأول من التفسير .
/خ26