/م20
ولا يخفى أنّ عبارة ( نعمة الله ) تشمل جميع الأنعم الإِلهية ،لكن الآية استطردت فبيّنت ثلاثاً من أهم هذه النعم ،أوّلها نعمة ظهور أنبياء وقادة كثيرين بين اليهود ،والتي تعتبر أكبر نعمة وهبها الله لهم ،فتقول الآية: ( إِذ جعل فيكم أنبياء ...) وقد نقل أنّ في زمن موسى بن عمران وحده كان يوجد بين اليهود سبعون نبيّاً ،وإِنّ السبعين رجلا الذين ذهبوا مع موسى( عليه السلام ) إلى جبل «الطور » كانوا كلهم بمنزلة الأنبياء .
وفي ظل هذه النعمة ( نعمة وجود الأنبياء ) نجى اليهود من هاوية الشرك والوثنية وعبادة العجل وتخلصوا من مختلف أنواع الخرافات والأوهام والقبائح والخبائث ،لذلك أصبحت هذه النعمة أكبر النعم المعنوية التي أنعم الله بها على بني إِسرائيل .
بعد هذا تشير الآية إلى أكبر نعمة مادية وهبها الله لليهود فتقول: ( وجعلكم ملوكاً ...) وتعتبر هذه النعمةأيضاًمقدمة للنعم المعنوية ،فقد عانى بنو إِسرائيل لسنين طويلة من ذل العبودية في ظل الحكم الفرعوني ،فلم يكونوا ليمتلكوا في تلك الفترة أي نوع من حرية الإِرادة ،بل كانوا يعاملون معاملة البهائم المكبلة في القيود ،وقد أنقذهم الله من كل تلك القيود ببركة النّبي موسى بن عمران( عليه السلام ) وملكهم مصائرهم ومقدراتهم .
وقد ظن البعض أنّ المراد من كلمة «الملوك » الواردة في الآية هم الملوك والسلاطين الذين ظهروا من سلالة بني إِسرائيل ،في حين أنّ المعروف هو أنّ بني إِسرائيل لم يحكموا إِلاّ فترة قصيرة ،فلم يحظ منهم إِلاّ القليل بمنزلة الملوكية ،بينما الآيةموضوع البحثتقول: ( وجعلكم ملوكاً ) وهذه إِشارة إلى تمتع جميع بني إِسرائيل بهذه المنزلة ،ويتبيّن من هذا أنّ المراد بكلمة «ملوك » الواردة في الآية أن بني إِسرائيل قد تملكوا مصائرهم ومقدرتهم بعد أن كانوا مكبلين بقيود العبودية في ظل الحكم الفرعوني .
إِضافة إلى ذلك فإِنّ كلمة «ملك » في اللغة لها معان عديدة منها «السلطان » ومنها «المالك لزمام الأُمور » ومنهاأيضاًالمالك لرقبة شيء معين{[1017]} .
ونقل في تفسير «الدر المنثور » عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) حديثاً جاء فيه: «كانت بنو إِسرائيل إِذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً ...» .
وتشير هذه الآية في آخرها إلى أنّ الله قد وهب بني إِسرائيل في ذلك الزمان نعماً لم ينعم بها على أحد من أفراد البشر في ذلك الحين فتقول: ( وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين ) وكانت هذه النعم الوافرة كثيرة الأنواع ،فمنها نجاة بني إِسرائيل من مخالب الفراعنة الطغاة ،وانفلاق البحر لهم ،ونزول غذاء خاص عليهم مثل «المن والسلوى » ،وقد أوردنا تفاصيل ذلك في الجزء الأوّل من كتابنا هذا ،لدي تفسير الآية ( 57 ) من سورة البقرة .