وكَمْ في قوله- تعالى-:وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ.... خبرية بمعنى كثير، وهي منصوبة بما بعدها، والقرن يطلق على جماعة من الناس تعيش في زمن واحد، ومقداره مائة سنة- على الراجح-.
وقوله:مِنْ قَرْنٍ تمييز لكم، وجملة هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً صفة، والبطش:
السطوة والأخذ بشدة. أى:واعلم- أيها الرسول الكريم- أننا أهلكنا كثيرا من القرون الماضية التي كذبت رسلها، كقوم نوح وعاد وثمود، وقد كانوا أشد من قومك قوة وأكثر جمعا، ومادام الأمر كما ذكرنا لك، فلا تحزن ولا تبتئس لما يصيبك من الكافرين المعاصرين لك، فنحن في قدرتنا أن ندمرهم تدميرا.
والضمير في قوله- تعالى-:فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ يعود إلى أهل تلك القرون المهلكة الماضية. والتنقيب:السير في الأرض، والطواف فيها. والبحث بين أرجائها، يقال:نقب فلان في الأرض، إذا ذهب فيها وأصل النّقب:الخرق والدخول في الشيء، ومنه قولهم:
نقب فلان الجدار، إذا أحدث فيه خرقا.
والمراد به هنا:السير في الأرض، والتفتيش فيها..
قال الآلوسى:فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أى:ساروا في الأرض وطوفوا فيها حذر الموت..
قال الشاعر:
نقبوا في البلاد حذر الموت ... وجالوا في الأرض كل مجال
وشاع التنقيب في العرف بمعنى التنقير عن الشيء والبحث عن أحواله..
والفاء على تفسير التنقيب بالسير ونحوه، لمجرد التعقيب، وعلى تفسيره بالتصرف للسببية، لأن تصرفهم في البلاد مسبب عن اشتداد بطشهم، وهي على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها، كأنه قيل:اشتد بطشهم فنقبوا في البلاد...
والاستفهام في قوله- سبحانه-:هَلْ مِنْ مَحِيصٍ للإنكار والنفي، والمحيص:
المعدل والمهرب، يقال:حاص فلان عن الشيء يحيص حيصا، ومحيصا، إذا عدل وحاد عنه، وحاول الهروب منه. أى:أن هؤلاء المكذبين السابقين، كانوا أشد من مشركي قريش قوة وأكثر جميعا، وكانوا أكثر ضربا في الأرض وسيرا فيها فلما نزل بهم بأسنا حاولوا الهرب والفرار، فلم يجدوا مكانا يهربون فيه، بل نزل بهم عذابنا فدمرناهم تدميرا.
فعليكم- أيها المشركون- أن تعتبروا بهم، حتى لا يصيبكم ما أصابهم.
فالمقصود بالآية الكريمة، تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتحذير أعدائه من سوء عاقبة الكفر والعناد.