انتقال من الاستدلال إلى التهديد وهو معطوف على ما قبله وهذا العطف انتقال إلى الموعظة بما حل بالأمم المكذبة بعد الاستدلال على إمكان البعث بقوله:{ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم}[ ق: 4] وما فُرّع عليه من قوله:{ أفَعَيِينَا بالخلق الأول}[ ق: 15] .وفي هذا العطف الوعيد الذي أجمل في قوله:{ كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرّس إلى قوله:{ فحقّ وعيد}[ ق: 12 ،14] .فالوعيد الذي حقّ عليهم هو الاستئصال في الدنيا وهو مضمون قوله:{ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً} .
والخبر الذي أفاده قوله:{ وكم أهلكنا قبلهم} تعريض بالتهديد وتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وضميرا{ قبلهم} و{ منهم} عائدان إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام كما تقدم في قوله أول السورة من قوله:{ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ويفسره قوله بعده فقال الكافرون هذا شيء عجيب}[ ق: 2] .وجرى على ذلك السَّنَن قوله:{ كَذَّبت قبلهم قوم نوح} وقوله:{ بل هم في لبس من خلق جديد}[ ق: 15] ،ونظائره في القرآن كثيرة .
و{ كم} خبرية وجرّ تمييزها ب{ من} على الأصل .
والبطش: القوة على الغير .والتنقيب: مشتق من النقْب بسكون القاف بمعنى الثقب ،فيكون بمعنى: خَرَقوا ،واستعير لمعنى: ذللوا وأخضعوا ،أي تصرفوا في الأرض بالحفر الغرس والبناء وتحت الجبال وإقامة السداد والحصون فيكون في معنى قوله:{ وأثارُوا الأرض وعَمَرُوها} في سورة الروم ( 9 ) .
وتعريف البلاد} للجنس ،أي في الأرض كقوله تعالى:{ الذين طغوا في البلاد}[ الفجر: 11] .
والفاء في{ فنقبوا} لتفريع عن{ أشد منهم بطشاً} ،أي ببطشهم وقوتهم لقبوا في البلاد .
والجملة معترضة بين جملة{ وكم أهلكنا قبلهم} إلى آخره .
وجملة{ هل من محيص} كما اعترض بالتفريع في قوله تعالى:{ ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار}[ الأنفال: 14] .
وجملة{ هل من محيص} بدل اشتمال من جملة{ أهلكنا} ،أي إهلاكاً لا منجى منه .ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة .فالاستفهام إنكاري بمعنى النفي ،ولذلك دخلت{ من} على الاسم الذي بعد الاستفهام كما يقال: ما مِن محيص ،وهذا قريب من قوله في سورة ص ( 3 ){ كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولاتَ حين مناص} .
والمحيص: مصدر ميمي من حَاص إذا عَدَل وجاد ،أي لم يجدوا محيصاً من الإهلاك وهو كقوله تعالى:{ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد} في سورة مريم ( 98 ) .