وقوله: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} إلى آخرها يجوز أن تكون الإشارة بذلك إلى إهلاك القرون الأشدِّ بطشاً ،ويجوز أن يكون إلى جميع ما تقدم من استدلال وتهديد وتحذير من يوم الجزاء .
والذكرى: التذكرة العقلية ،أي التفكر في تدبر الأحوال التي قضت عليهم بالإهلاك ليقيسوا عليها أحوالهم فيعلموا أن سَيَنَالهُمْ ما نال أولئك ،وهذا قياس عقلي يدركه اللبيب من تلقاء نفسه دون احتياج إلى منبه .
والقلب: العقل وإدراك الأشياء على ما هي عليه .وإلقاء السمع: مستعار لشدة الإصغاء للقرآن ومواعظ الرسول صلى الله عليه وسلم كأنَّ أسماعهم طرحت في ذلك فلا يشغلها شيء آخر تسمعه .
والشهيد: المشاهد وصيغة المبالغة فيه للدلالة على قوة المشاهدة للمذكر ،أي تحديق العين إليه للحرص على فهم مراده مما يقارن كلامه من إشارة أو سَحْنة فإن النظر يعين على الفهم .وقد جيء بهذه الجملة الحالية للإشارة إلى اقتران مضمونها بمضمون عاملها بحيث يكون صاحب الحال ملقيا سمعه مشاهِدا .وهذه حالة المؤمن ففي الكلام تنويه بشأن المؤمنين وتعريض بالمشركين بأنهم بعداء عن الانتفاع بالذكريات والعبر .وإلقاء السمع مع المشاهدة يوقظ العقل للذكرى والاعتبار إن كان للعقل غفلة .
وموقع{ أو} للتقسيم لأن المتذكر إمّا أن يتذكر بما دلت عليه الدلائل العقلية من فهم أدلة القرآن ومن الاعتبار بأدلة الآثار على أصحابها كآثار الأمم مثل ديار ثمود ،قال تعالى:{ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا}[ النمل: 52] فقوله:{ ألقى السمع} استعارة عزيزة شبه توجيه السمع لتلك الأخبار دون اشتغال بغيرها بإلقاء الشيء لمن أخذه فهو من قسم من له قلب ،وإما أن يتذكر بما يبلغه من الأخبار عن الأمم كأحاديث القرون الخالية .وقيل المراد بمن ألقى السمع وهو شهيد خصوص أهل الكتاب الذين ألقوا سمعهم لهذه الذكرى وشهدوا بصحتها لعلمهم بها من التوراة وسائر كتبهم فيكون{ شهيد} من الشهادة لا من المشاهدة .وقال الفخر: تنكير{ قلب} للتعظيم والكمال .والمعنى: لمن كان له قلب ذكيّ واع يستخرج بذكائه ،أو لمن ألقى السمع إلى المنذر فيتذكر ،وإنما قال{ أو ألقى السمع} ولم يقل: استمع ،لأن إلقاء السمع ،أي يرسل سمعه ولا يمسكه وإن لم يقصد السماع ،أي تحصل الذكرى لمن له سمع .وهو تعريض بتمثيل المشركين بمن ليس له قلب وبمن لا يلقي سمعه .