ومن هنا فهي لا تحدثنا عن قصة موسى من أولها كما جاء في سورة القصص مثلا وإنما هي تبدأ حديثها عنها بالغرض الذي جاءت من أجله وهو التخويف من عواقب التكذيب فتقول:
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.
وهكذا تصرح السورة الكريمة في أول آية من قصة موسى بالهدف الذي سيقت من أجله وهو النظر والتدبر في عاقبة المفسدين.
ثم بعد ذلك تحدثنا حديثا مستفيضا زاخرا بالعبر والعظات عما دار بين موسى وفرعون من محاورات ومجادلات انتهت بغرق فرعون وقومه، ثم عما دار بين موسى وبين بنى إسرائيل من مجادلات تدل على أصالتهم في الكذب والإفساد والفسوق عن أمر الله.
والآن فلنستمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى لنا قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل في نحو سبعين آية تبدؤها بقوله- تعالى-:
هذا هو الدرس الأول من قصة موسى مع فرعون وفيه نرى ما دار بين موسى وفرعون من محاورات، وما دار بين موسى والسحرة من مناقشات ومساجلات انتهت بإيمان السحرة وهم يضرعون إلى الله بلسان صادق، وقلب سليم فيقولون- كما حكى القرآن عنهم-:رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ. ولنبدأ في تفسير آيات هذا الدرس من أولها فنقول:
قوله- تعالى- ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ معطوف على ما قبله من قصص الأنبياء الذين تحدثت عنهم السورة الكريمة.
وموسى- عليه السلام- هو ابن عمران من نسل لاوى بن يعقوب. ويرى بعض المؤرخين أن ولادة موسى كانت في حوالى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وان بعثته كانت في عهد منفتاح بن رمسيس الثاني.
وفرعون:لقب لملوك مصر القدماء، كلقب قيصر لملوك الروم، وكسرى لملوك الفرس، والمعنى:ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل الذين سبق الحديث عنهم- وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب- بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا التي تدل على صدقه فيما يبلغه عن ربه إلى فرعون وملئه، وهم اشراف قومه، ووجهاء دولته.
قال بعض العلماء:«ولم يقل- سبحانه- إلى فرعون وقومه، لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبنى إسرائيل، وبيدهم أمرهم، وليس لسائر المصريين من الأمر شيء، ولأنهم كانوا مستعبدين- أيضا ولكن الظلم على بنى إسرائيل الغرباء كان أشد».
وقوله بِآياتِنا متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول بعثنا، أو صفة لمصدره. أى:
بعثناه- عليه السلام- ملتبسا بها. أو بعثناه بعثا ملتبسا بها.
والمراد بها الآيات التسع وهي العصا، واليد البيضاء، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
ثم بين- سبحانه- في الآية الأولى من هذه القصة كيف تلقى فرعون وملؤه دعوة موسى وآياته فقال:فَظَلَمُوا بِها أى:فكفروا بهذه الآيات تكبرا وجحودا، فكان عليهم وزر ذلك، وقد عدى الظلم هنا بالباء مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى الكفر، إذ هما من واد واحد قال- تعالى- إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
ويجوز أن تكون الباء للسببية والمفعول محذوف، أى:ظلموا أنفسهم بسببها بأن عرضوها للعقاب المهين. أو ظلموا الناس بصدهم عن الإيمان بهذه الآيات، واستمروا على ذلك إلى أن حق عليهم العذاب الأليم.
ثم ختمت الآية بالأمر بالتدبر في أحوال هؤلاء الظالمين وفيما حل بهم من سوء المصير فقال- تعالى- فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أى:فانظر أيها الرسول الكريم- أو أيها العاقل- كيف كانت عاقبة فرعون وملئه الذين أفسدوا في الأرض، لقد أخذهم الله بذنوبهم فأغرقهم في اليم، وموسى وقومه ينظرون إليهم، وتلك عاقبة كل من طغى وآثر الحياة الدنيا.
ووضع- سبحانه- المفسدين موضع ضميرهم للإيذان بأن الظلم مستلزم للافساد.
وكَيْفَ خبر لكان مقدم عليها لاقتضائه الصدارة. وعاقبة، اسمها، وهذه الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط حرف الجر، إذ التقدير:فانظر بعين عقلك إلى كيفية ما فعلناه بهم.
وهكذا نرى السورة الكريمة ترينا في أول آية من هذه القصة الغرض الذي سيقت من أجله وهو التدبر في عواقب المكذبين، والتخويف من المصير الذي ساروا إليه، وتنهى الناس في كل زمان ومكان عن السير على منوالهم. والسورة الكريمة عند ما ترينا ذلك في مطلع هذه القصة تكون متناسقة كل التناسق مع أسلوبها الذي اختارته في دعوة الناس إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق، وهو أسلوب التذكير بالنعم، والتحذير من عواقب الظلم والطغيان- كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في التمهيد بين يدي السورة.