/م103
قال الله تعالى:{ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه} هذه القصة معطوفة على جملة ما قبلها من القصص من قوله تعالى:{ لقد أرسلنا نوحا} إلى قوله:{ وإلى مدين أخاهم شعيبا} القصة .فهي نوع وهن نوع آخر ، والفرق بين النوعين أن تلك القصص متشابهة في تكذيب الأقوام فيها لرسلهم ومعاندتهم إياهم وإيذائهم لهم ، وفي عاقبة ذلك بإهلاك الله تعالى إياهم بعذاب الاستئصال .ولذلك عطف كل واحدة منهن على الأولى بدون إعادة ذكر الإرسال للإيذان بأنها نوع واحد فقال:{ وإلى عاد أخاهم هودا}{ وإلى ثمود أخاهم صالحا}{ ولوطا}{ وإلى مدين أخاهم شعيبا} وقد أعاد في قصة موسى ذكر الإرسال للتفرقة ولكن بلفظ البعث وهو أخص وأبلغ من لفظ الإرسال لأنه يفيد معنى الإثارة والإزعاج إلى الشيء المهم ، ولم يذكر في القرآن إلا في بعث الموتى وفي الرسالة العامة أي بعث عدة من الرسل ، وفي بعثة نبينا وموسى خاصة ، وكذا في بعث نقباء بني إسرائيل وبعث من انتقم منهم وعذبهم وسباهم حين أفسدوا في الأرض .
فالتعبير بلفظ البعث هنا يؤكد ما أفادته إعادة العامل من التفرقة بين نوعي الإرسال –أعني أن لفظه الخاص مؤكد لمعناه العام –كما يؤكدها عطف هذه القصة على أولئك ثم التي تدل على الفصل والتراخي إما في الزمان وإما في النوع أو الرتبة والأخير هو المراد هنا .وبيانه أن هذا الإرسال وما ترتب عليه وأعقبه في قوم موسى مخالف لجملة ما قبله مخالفة تضاد فقد أنقذت به أمة من عذاب الدنيا وهو تعبيد فرعون وملئه لها وسومهم إياها أنواع الخزي والنكال ، واهتدت إلى عبادة الله تعالى وحده وإقامة شرعه فأعطاها في الدنيا ملكا عظيما ، وجعل منها أنبياء وملوكا ، وأعد بذلك المهتدين منها لسعادة الآخرة الباقية فأين هذا الإرسال من ذلك الإرسال ، الذي أعقب أقوام أولئك الرسل في الدنيا عذاب الاستئصال ، وفي الآخرة ما هو أشد وأبقى من الخزي والنكال ؟
وقد يظهر للتراخي الزماني وجه باعتبار كون العطف على قصة نوح ، فإن ما عطف عليها من قصص ومن بعده قد جعل تابعا ومتمما لها بعدم إعادة العامل"أرسلنا "كما تقدم آنفا ، وإلا فإن شعيبا وهو آخر أولئك الرسل كان في زمن موسى وهو حموه ، وقد أوحى الله تعالى إلى موسى وهو لديه مع زوجه وأولاده في سيناء وأرسله منها إلى فرعون وملئه لإنقاذ بني إسرائيل من حكمه وظلمه .
ويؤيد ذلك كله أن الله تعالى ذكر إرسال نوح في سورة يونس وقفى عليه بقوله:{ ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم} [ يونس:74] الخ وقال بعد هذا{ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه} [ يونس:75] ومن المعلوم عقلا واستنباطا أن التراخي بين بعثة نوح ومن بعده من الرسل زماني إذ كان بعد تناسل الذين نجوا معه في السفينة وتكاثرهم وصيرورتهم شعوبا وقبائل ، وهذا الإجمال في سورة يونس في الرسل مبني على التفصيل الذي سبقه في سورة الأعراف التي نزلت قبلها أو هو أعم منه فإن الأمم قد كثرت بين نوح وموسى عليهما السلام وقد قال تعالى:{ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا} [ النحل:36] وقال لخاتم رسله{ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [ غافر:78] وقد بينا حكمة تخصيص من ذكر في هذه السورة منهم بالذكر وكذا من ذكر في سورة الأنعام وغيرها .
والمعنى:ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى بآياتنا التي تدل على صدقه فيما يبلغه عنا إلى فرعون وملئه .أما فرعون فهو لقب لملوك مصر القدماء كلقب قيصر لملوك الروم وكسرى لملوك الفرس الأولين و "الشاه "لملوك الإيرانيين في هذا العصر ، وكانوا يطلقون على فرعون لقب الملك أيضا .واختلف في اشتقاق كلمة فرعون ومعناه .وفي اسم فرعون موسى وزمنه ، وليس في الآثار المصرية ما يبين هذا وأما ملؤه فهم أشراف قومه ورجال دولته ، ولم يقل إلى فرعون وقومه لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبني إسرائيل وبيدهم أمرهم وليس لسائر المصريين من الأمر شيء لأنهم كانوا مستعبدين أيضا ، ولكن الظلم على بني إسرائيل الغرباء كان أشد ، وإنما بعث الله تعالى موسى لإنقاذ قومه بني إسرائيل من فرعون ورجال دولته وإقامة دين الله تعالى بهم في بلاد أجدادهم ، ولو آمن فرعون وملؤه لآمن سائر قومهم لأنهم كانوا تبعا لهم بل كان هذا شأن جميع الأقوام مع ملوكهم المستبدين الجائرين .
وقد علم الله تعالى أن فرعون وملأه لا يؤمنون بموسى وأن قومه تبع له لا اختيار لهم وأكثرهم مقلدون ولذلك قتل السحرة لما آمنوا بموسى ، وإنما آمنوا لأنهم كانوا علماء مستقلي العقل أصحاب فهم ورأي ، وكان السحر من علومهم وفنونهم الصناعية التي تتلقى بالتعليم وليس كالآيات التي جاء بها موسى فإنها من خوارق العادات التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى .
وقد أقام الله تعالى الحجة بآيات موسى على فرعون وملئه{ فظلموا بها} أي فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها كبرا وجحودا فكان عليهم إثم ذلك وإثم قومهم الذين حرموا من الإيمان باتباعهم لهم ، كما كان يكون لهم مثل أجورهم لو آمنوا بالتبع لهم .وجملة القول أن موسى عليه السلام كان مرسلا إلى قومه بني إسرائيل بالذات وإلى فرعون وملئه بالتبع ، ولك أن تقول إن الإرسال إلى بني إسرائيل مقصد وإلى فرعون وملئه وسيلة .وقد عدي الظلم في الجملة بالباء لتضمينه معنى الكفر فصار جامعا للمعنيين ولا يصح تفسيره بأحدهما ، إذ لو أريد أحدهما لعبر به ولم يكن للتضمين فائدة .وقيل إن الباء في قوله فظلموا بها للسببية أي فظلموا أنفسهم وقومهم بسبب هذه الآيات ظلما جديدا وهو ما ترتب على الجحود من العذاب بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ثم بالغرق كما سيجيء في محله .والأول أظهر وأبلغ على أنه لا تنافي بينهما في المعنى .
{ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} أي فانظر أيها الرسول – أو أيها السامع والتالي بعين العقل والفكر – كيف كان عاقبة فرعون وملئه المفسدين في الأرض بالظلم واستعباد البشر حين جحدوا آيات الله وظلموا بها عملا بمقتضى فسادهم .وهذا تشويق لتوجيه النظر لما سيقصه تعالى من عاقبة أمرهم إذ نصر عبده ورسوله موسى عليهم وهو فرد من شعب مستضعف مستعبد لهم ، وهم أعظم أهل الأرض دولة وصولة وقوة ، نصره عليهم أولا بإبطال سحرهم وإقناع علمائهم وسحرتهم بصحة رسالته وكون آياته من الله تعالى ، ثم نصره بإرسال أنواع العذاب على البلاد ثم بإنقاذ قومه وإغراق فرعون ومن اتبعه من ملئه وجنوده .وهذه عبرة ظاهرة وحجة قائمة مدة الدهر ، على القائلين إنما الغلب للقوة المادية على الحق ، ولاسيما المغرورين بعظمة دول أوربة الظالمة لمن استضعفتهم من أهل الشرق ، وعلى أولئك الباغين بالأولى ، فأولى لهم أولى ، ثم أولى لهم أولى .