/م103
بعد هذا التشويق والتنبيه قص تعالى علينا ما كان من مبدأ أمر أولئك المفسدين الذي انتهى إلى تلك العاقبة فقال:{ وقال موسى يا فرعون إنّي رسول من ربّ العالمين * حقيق على أن لا أقول على اللّه إلّا الحقّ قد جئتكم ببيّنة من ربّكم فأرسل معي بني إسرائيل} نبدأ بما في هذه الآية من المباحث اللفظية والقراءات ونكت البلاغة لتفهم عبارتها كما يجب ويكون سياق القصة بعد ذلك متصلا بعضه ببعض ، وفيها بحثان دقيقان أحدهما بدء القصة بالعطف وكونه بالواو ، والثاني قول موسى عليه السلام{ حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق} لم أر من تكلم على وجه بدء الآية بالعطف وبيان المعطوف عليه والتفرقة بينها وبين مثلها من سياق القصة في سورة طه إذ قال بعد أمر موسى بالذهاب مع أخيه هارون إلى فرعون وتبليغه الدعوة مبينا كيف كان امتثالها للأمر{ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} [ طه:48] فجاء به مفصولا على وجه الاستئناف البياني غير موصول بالواو ولا بالفاء ، ومثله في الفصل قوله تعالى في القصص التي قبل قصة موسى من هذه السورة{ وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله} [ الأعراف:65] وكذا ما بعده من قصة صالح ولوط وشعيب ، ولم يقل فقال أو وقال ولكنه عطف تبليغ نوح عليه السلام قبلها بالفاء{ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله} [ الأعراف:59] الآية وقد بينا الفرق بين هذا الوصل وما بعده من الفصل في قصة هود عليه السلام .
والحاصل أن لدينا هنا عطفا بالفاء في قصة نوح وعطفا بالواو في قصة موسى وفصلا بيانيا في القصص التي بينهما يشبهه الفصل في قصة موسى في سور أخرى وله نظائر كثيرة .فأما الأول فعطف التبليغ فيه على الإرسال بالفاء لإفادة التعقيب وعدم جواز تأخير تبليغ الدعوة .وأما الفصل في القصص بعده فلأنه لما صار هذا معلوما وكان ما جرى من أمر قوم نوح عبرة لقوم هود وكانا معا عبرة لقوم صالح وهلمّ جرا – حسُنَ في كل قصة من هذه الفصلُ على أنه جواب لسؤال مقدر ، كأن قائلا يقول في كل منها:ماذا كان من أمر هذا النبي مع قومه ؟ كما تقدم بيانه .وأما الأخير الذي نحن بصدده فوجه العطف فيه وكونه بالواو هو أنه قد قفى في قصة موسى هنا على ذكر إرساله إلى فرعون وملئه بذكر نتيجة هذا الإرسال وعاقبته بالإجمال وهو قوله تعالى:{ فظلموا بها} الخ .
وبدأت القصة بعده بتفصيل ذلك الإجمال ومقدمات تلك النتيجة ، فكان المناسب أن يعطف عليها لا أن يستأنف استئنافا بيانيا لما هو ظاهر من الاشتراك بين المقدمات والنتيجة ، أو بين التفصيل والإجمال ، وأن يكون العطف بالواو لا بالفاء لأن الفاء تدل على التعقيب والترتيب وهو لا يصح هنا ، لأنه يقتضي أن تكون المقدمات متأخرة عن النتيجة وذلك باطل بالبداهة ، فتعين أن يكون العطف بالواو ، وهذه دقة في البلاغة لا يهتدي إلى مثلها إلا غوّاصو بحر البيان ، ولا يكادون يجدون فرائدها إلا في أسلوب القرآن ، وأعجب للإمام الزمخشري كيف غفل عنها إذ لم يتعرض للمسألة من أصلها .وحكمة بدء القصة بذكر نتيجتها والعبرة المقصودة منها ، هي –والله أعلم- أن تكون متصلة بما يناسبها من العبرة في القصص التي قبلها ، من حيث إهلاك معاندي الرسل عليهم السلام جحودا واستكبارا ، وقد ذكرت هذه العبرة بعد جملة تلك القصص لتشابهها مبدأ وغاية كما تقدم ، وقصة موسى عليه السلام طويلة فهي تساويها في هذا من حيث رسالته إلى فرعون وملئه فقط .وفيها عبر أخرى فيما تشابه به أمر خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم من حيث إرساله إلى بني إسرائيل وإرسال محمد خاتم النبيين إلى العرب وسائر البشر وتوفيق الله قومهما للإيمان ونشر شريعتها فيمن أرسلا إليهم ، إلى آخر ما بيناه آنفا في نكتة عطفها على ما قبلها ب( ثم ) ونكتة التعبير ب( بعثنا ) ، ولذلك ذكر في أواخرها تبشير موسى وكذا عيسى بالنبي الأمي الخاتم محمد صلوات الله عليهم أجمعين .