قال ابن كثير:عن ابن عباس في قوله:وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنه قال:
تشاورت قريش ليلة بمكة- في شأن النبي- صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد أن رأوا أمره قد اشتهر، وأن غيرهم قد آمن به- فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق. وقال بعضهم بل اقتلوه. وقال بعضهم بل أخرجوه. ثم اتفقوا أخيرا على قتله-، فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك، وأمره أن لا يبيت في مضجعه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يبيت مكانه ففعل وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليا قالوا له أين صاحبك؟ قال:لا أدرى. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال.
وقد ذكر ابن كثير وغيره روايات أخرى تتعلق بهذه الآية، إلا أننا نكتفي بهذه الرواية، لإفادتها بالمطلوب في موضوعنا، ولأن غيرها قد اشتمل على أخبار أنكرها بعض المحققين، كما أنكرها ابن كثير نفسه .
وقوله:وَإِذْ يَمْكُرُ.. تذكير من الله- تعالى- لنبيه وللمؤمنين ببعض نعمه عليهم، حيث نجى نبيه صلى الله عليه وسلم من مكر المشركين حين تآمروا على قتله وهو بينهم بمكة.
قال ابن جرير:أنزل الله على النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد قدومه المدينة سورة الأنفال، يذكره نعمه عليه- ومن ذلك قوله- تعالى- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا..
الآية.
وقوله يَمْكُرُ من المكر، وهو- كما يقول الراغب- صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان:مكر محمود وذلك أن يتحرى بمكره فعلا جميلا ومنه قوله- تعالى- وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. ومكر مذموم، وهو أن يتحرى بمكره فعلا قبيحا، ومنه قوله- تعالى- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. وقال- سبحانه وتعالى- في الأمرين:وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ .
وقوله:«ليثبتوك» أى ليحبسوك. يقال أثبته إذا حبسته.
والمعنى:واذكر- يا محمد- وقت أن نجيتك من مكر أعدائك، حين تآمروا عليك وأنت بين أظهرهم في مكة، لكي لِيُثْبِتُوكَ أى:يحبسوك في دارك، فلا تتمكن من لقاء الناس ومن دعوتهم إلى الدين الحق أَوْ يَقْتُلُوكَ بواسطة مجموعة من الرجال الذين اختلفت قبائلهم في النسب، حتى يتفرق دمك فيهم فلا تقدر عشيرتك على الأخذ بثأرك من هذه القبائل المتعددة.. أَوْ يُخْرِجُوكَ أى:من مكة منفيا مطاردا حتى يحولوا بينك وبين لقاء قومك.
وقوله:وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ بيان لموضع النعمة والمنة، أى:
والحال أن هؤلاء المشركين يمكرون بك وبأتباعك المكر السيئ، والله- تعالى- يرد مكرهم في نحورهم، ويحبط كيدهم، ويخيب سعيهم، ويعاقب عليه عقابا شديدا، ويدبر أمرك وأمر أتباعك، ويحفظكم من شرورهم، فهو- سبحانه- أقوى الماكرين. وأعظمهم تأثيرا، وأعلمهم بما يضر منه وما ينفع.
قال الآلوسى:قوله وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ أى:برد مكرهم ويجعل وخامته عليهم، أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر، وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا منهم ما يشيب منه الوليد.
وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره- سبحانه-. وإطلاق هذا المركب الإضافى عليه- تعالى- إن كان باعتبار أن مكره- سبحانه- أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإضافة للتفضيل، لأن لمكر الغير- أيضا- نفوذا أو تأثيرا في الجملة.. وإن كان باعتبار أنه- سبحانه- لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا ما يستوجب الممكور به، فلا شركة لمكر الغير فيه، وتكون الإضافة حينئذ للاختصاص، لانتفاء المشاركة..».
هذا والصورة التي يرسمها قوله- تعالى-:وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ صورة عميقة التأثير، ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون، والله من روائهم محيط، ويمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون.
إنها صورة ساخرة، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة.. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل، من تلك القدرة القادرة.. قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط؟
والتعبير القرآنى يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير، فيهز بها القلوب، ويحرك بها أعماق الشعور» .