ذكرنا الله تعالى بما كان عليه المؤمنون في مكة ، إذ كانوا عددا قليلا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس ، وقد بين أشد ما دبروه ، وهو ما أعقبه الهجرة ، ليتذكروا شدتهم في رخائهم ولذا قالوا:إن تسع آيات مكية جاءت لهذا التذكير ومنا قوله تعالى:
المكر الأبلغ الإيذاء:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( 30 ) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ( 31 ) وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 32 ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( 33 )
في هذه الآية يذكر سبحانه وتعالى ما كانوا يبيتونه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيل أن يهاجر ، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدبر للهجرة من قبل ذلك ، فقد أخذ يعرض نفسه على القبائل ، حتى وجد قبل الهجرة ما يقارب سنتين الأوس والخزرج ، فأخذ يدبر أمر الهجرة إليهم في يثرب ، ويعد العدة لذلك ويهيء المتبوأ ، ويتم الرسالة ، بلاغا وتبيينا ، وقد هاجر من هاجر قبل ذلك إلى الحبشة ، وهاجر إلى المدينة من يحفظ القرآن ويعلم الإسلام فهل كانت الهجرة فرارا من الإيذاء وطلبا للأمن ؟ .
لا شك أن فرار الذين هاجروا إلى الحبشة كان من الأذى بل كانت نظاما لتأسيس دولة ، ولأنه نظام يجب أن يتحقق ، ولأن الإسلام جاء لإقامة دولة تحكم بأمر الله ونهيه ، وتقيم العدل ، وترفع الجور ، وما كانت تتمكن من ذلك ، وهي خاضعة لعبدت الأوثان ، بل كان لابد من الهجرة حيث تكون القوة ، وحيث يتمكن من إقامة الدولة ، وقد اختار الله تعالى من الأرض أرضا ينتشر منها خبر الدعوة المحمدية في كل ربوع البلاد العربية ، فكانت أرض البيت الحرام ، وقد مكث محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثلاث عشرة سنة يدعو ، دخل خلالها في دينه بعض قريش ، وبعض القبائل ، وعرف العرب دعوته ، حتى إذا تكونت الجماعة التي كانت النواة الأولى ، مهد لإنشاء الدولة ، فسافر إلى المدينة مهاجرا .
وبينما هو يعد العدة ، أو أعدها ومهد الأرض وعبد المقام – كانوا يفكرون في الإيذاء ، ولذا لا نقول هاجر فرارا ، بل كان الاتفاق الزمني ، وهم يفرغون جعبتهم ، وقد أفرغوها ، وراشوها ( 1 ){[1166]} ، ولم يجدوا موضوعا لفعلهم .
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} .
( إذ ) ظرف وقائعه في الماضي ، وهو متعلق بمحذوف تقديره اذكر ، أي اذكر يا محمد ومن معك الوقت الذي بلغ الأذى أقصاه ، وهم يمكرون ، ويدبرون ويحكمون ، ويتجادلون في أنجع طريق لسد الطريق على دعوتك ، أيحبسونك ، أو يقتلونك أو يخرجونك ، وقد اجتمعوا ، ويقول الله تعالى مشيرا إلى آرائهم{ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} ( ويثبتونك ) معناها يحبسونك فيمنعونك الحركة أو يقتلونك أو يخرجونك .
ولنضرب بكلمة موجزة ، لقد ثبت بإسناد صحيح أن الملأ من قريش اجتمعوا في دار ندوتهم ليتشاوروا في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد صار على أمر عظيم عليهم ، خالفهم وسفه أحلامهم وعاب آلهتهم فتقاولوا في أمره ماذا يصنعون أيثبتونه أي يمنعونه من الحركة بالحبس ، أم يقتلونه ، أم يخرجونه .
قال قائل منهم:احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون ، حتى يهلك كما هلك من قبله ، فلم يرتضوا هذا رأيا ، وقال قائلهم:والله ليخرجنه أصحابه فليوشكن أن يثبتوا يأخذونه من أيديكم فيمنعونه منكم . قال قائل منهم:أخرجوه من بين أظهركم ، فتستريحوا منه ، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع ، وكان أمره في غيركم .
فقال قائل:ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه القلوب بما تسمع من حديثه ، والله لئن فعلتم عليه ، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم .
وقال أبو جهل:والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد ، لا أرى غيره ؛ قالوا:وما هو ؟ قال تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسطا نهدا ، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها ، فإنهم إن رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا .
قبلوا ذلك الرأي واستطابوه وهموا لتنفيذه ، واجتمعوا حول داره لينفذوا الخطة ، وأتوا بالشباب الأنهاد ، ولكن الله تعالى كان يدبر لرسوله ورسالته ، ولقد جاء سيف الحق علي كرم الله وجهه ونام مكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم مصطفون حول الدار وقبض قبضة من الرماد وقال:( شاهت الوجوه ) ( 1 ){[1167]} ، ويروى أنه تلا قوله تعالى:{ وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ( 9 )} ( يس ) ( 2 ){[1168]} . هذا تدبيرهم ومكرهم ، وإنه في هذا الوقت الذي كانوا يمكرون فيه ، كان الله يدبر فيه لرسوله ولرسالته ، فكان يدبر أمر هجرته ، وابتدأت بهجرة كبراء الصحابة كعمر رضي الله عنه ، وأبي عبيدة ، وغيرهما من كبار الصحابة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتجز أبا بكر لصحبته ، فكان له فضل في الصحبة في الغار .
وسمي تدبير الله تعالى مكرا من قبيل المشاكلة اللفظية ، كقوله تعالى:{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم . . . . . . . . ( 194 )} ( البقرة ) فدفع الاعتداء ليس اعتداء .
والله تعالى{ خير الماكرين} أي خير من يدبر ، وينظم ويحمي نبيه ورسالته لأن تدبيره سبحانه وتعالى خير ، ولا يمكن إلا أن يكون خيرا وهو نافذ ومنتتج ومؤد إلى غاية هي خير غاية .