قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة:( ليثبتوك ) [ أي]:ليقيدوك .
وقال عطاء ، وابن زيد:ليحبسوك .
وقال السدي:الإثبات هو الحبس والوثاق .
وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء ، وهو مجمع الأقوال وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء .
وقال سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج ، قال عطاء:سمعت عبيد بن عمير يقول:لما ائتمروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، قال له عمه أبو طالب:هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال:يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني ، فقال:من أخبرك بهذا ؟ قال:ربي ، قال:نعم الرب ربك ، استوص به خيرا فقال:أنا أستوصي به ! بل هو يستوصي بي
وقال أبو جعفر بن جرير:حدثني محمد بن إسماعيل البصري المعروف بالوساوسي ، أخبرنا عبد الحميد بن أبي رواد عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن المطلب بن أبي وداعة ، أن أبا طالب قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:ما يأتمر بك قومك ؟ قال:يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني . فقال:من أخبرك بهذا ؟ قال:ربي ، قال:نعم الرب ربك ، فاستوص به خيرا ، قال:أنا أستوصي به ! بل هو يستوصي بي . قال:فنزلت:( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ) الآية .
وذكر أبي طالب في هذا ، غريب جدا ، بل منكر ؛ لأن هذه الآية مدنية ، ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل ، إنما كان ليلة الهجرة سواء ، وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترءوا عليه بعد موت عمه أبي طالب ، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه . والدليل على صحة ما قلنا:ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب "المغازي "عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال:وحدثني الكلبي ، عن باذان مولى أم هانئ ، عن ابن عباس ؛ أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة ، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة ، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل ، فلما رأوه قالوا:من أنت ؟ قال:شيخ من نجد ، سمعت أنكم اجتمعتم ، فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي . قالوا:أجل ، ادخل فدخل معهم فقال:انظروا في شأن هذا الرجل ، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره . قال:فقال قائل منهم:احبسوه في وثاق ، ثم تربصوا به ريب المنون ، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء:زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم ، قال:فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال:والله ما هذا لكم برأي ، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه ، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ، فيمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم . قال:فانظروا في غير هذا .
قال:فقال قائل منهم:أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه ، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع ، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم ، وكان أمره في غيركم ، فقال الشيخ النجدي:والله ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حلاوة [ قوله] وطلاوة لسانه ، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ، ثم استعرض العرب ، ليجتمعن عليكم ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم . قالوا:صدق والله ، فانظروا بابا غير هذا .
قال:فقال أبو جهل ، لعنه الله:والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم تصرمونه بعد ، ما أرى غيره . قالوا:وما هو ؟ قال:نأخذ من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا نهدا ، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل [ كلها] فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها . فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل ، واسترحنا وقطعنا عنا أذاه .
قال:فقال الشيخ النجدي:هذا والله الرأي . القول ما قال الفتى لا رأي غيره ، قال:فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له .
فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه ، وأخبره بمكر القوم . فلم يبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته تلك الليلة ، وأذن الله له عند ذلك بالخروج ، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة "الأنفال "يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده:( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) وأنزل [ الله] في قولهم:"تربصوا به ريب المنون ، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء "، ( أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ) [ الطور:30] وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة للذي اجتمعوا عليه من الرأي .
وعن السدي نحو هذا السياق ، وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى:( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ) [ الإسراء:76] .
وكذا روى العوفي ، عن ابن عباس . وروي عن مجاهد ، وعروة بن الزبير ، وموسى بن عقبة ، وقتادة ، ومقسم ، وغير واحد ، نحو ذلك .
وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق:فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظر أمر الله ، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به ، وأرادوا به ما أرادوا ، أتاه جبريل عليه السلام فأمره ألا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب ، فأمره أن يبيت على فراشه وأن يتسجى ببرد له أخضر ، ففعل . ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القوم وهم على بابه ، وخرج معه بحفنة من تراب ، فجعل يذرها على رءوسهم ، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ:( يس والقرآن الحكيم ) إلى قوله:( فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) [ يس:1 - 9] .
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي:روي عن عكرمة ما يؤكد هذا .
وقد روى [ أبو حاتم] ابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال:دخلت فاطمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي ، فقال:ما يبكيك يا بنية ؟ قالت:يا أبت ، [ و] ما لي لا أبكي ، وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاقدون باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك ، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك . فقال:يا بنية ، ائتني بوضوء . فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم خرج إلى المسجد . فلما رأوه قالوا:إنما هو ذا فطأطئوا رءوسهم ، وسقطت أذقانهم بين أيديهم ، فلم يرفعوا أبصارهم . فتناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من تراب فحصبهم بها ، وقال:شاهت الوجوه . فما أصاب رجلا منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافرا .
ثم قال الحاكم:صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ، ولا أعرف له علة .
وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، أخبرني عثمان الجزري ، عن مقسم مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله:( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ) قال:تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم:إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم:بل اقتلوه . وقال بعضهم:بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه على ذلك ، فبات علي - رضي الله عنه - على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا عليا رد الله تعالى مكرهم ، فقالوا:أين صاحبك هذا ؟ قال:لا أدري . فاقتصا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا:لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير في قوله:( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) أي:فمكرت بهم بكيدي المتين ، حتى خلصتك منهم .