وقد ترتب على تدبير الله أن قامت دولة الإسلام وظهر في الوجود أفضل مدنية كانت للفضيلة ونشأت بالفضيلة ، وقد ذكر الله استهزاء الكافرين بآيات الله تعالى ، وكيف يتلقون آيات الله بإهمال وسخرية فقال:{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} .
نزلت هذه الآية في مكة ، وهي تتلى في سورة أكثرها نزل بالمدينة لتذكرهم بما نزل بهم من المشركين بمكة إذ كانوا يستهينون بأمرهم ، ويستضعفونهم ، وقد امتد أمر استهانتهم إلى الحجج القارعة ، مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله القرآن ، يقول تعالى:{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا} ، هذا تصوير لبعض أحوالهم عند سماع تلاوة القرآن ؛ فأحيانا كانوا يتناهون عن الاستماع وقالوا:{ وقال الذين كفروا لا تسمعوا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ( 26 )} ( فصلت ) وأحيانا يطلبون آيات ، وأحيانا لا يعيرون القرآن التفاتا ويعلنون الاستهانة به .
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} ، عبر بالمضارع لتصوير حالهم وتجددها آنا بعد آن والتلاوة:الترتيل بالقراءة آية تلو آية في نغم هو ترتيل الله تعالى ، ولا يجيبون بالتأمل والتفكير والتدبر فيما يتلى ، بل يعاجلون القارئ كأنهم يطلبون أن يسكت ولا يقرأ قائلين:سمعنا ، كما تقول لمتكلم لا تريد منه الاستمرار:سمعنا ، سمعنا ، أي أقصر ، وكأنهم يتأففون ، ثم يردون قائلين ،{ لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} .
أي لو نشاء أن نقول مثل هذا الكلام لقلناه ، ولكنا نرده ، وهذا كلام يحمل في نفسه دلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله ، ولقد تحداهم القرآن ان يأتوا بعشر سور ، فما أتوا ، تحداهم أن يأتوا بسورة فعجزوا واعتذروا بأنهم لم يأتهم تأويله ، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله مفتريات فعجزوا ، أفبعد هذا التحدي الشامخ والسكوت الخانع والعجز الخاضع يقول قائلهم:لو شئنا لقلن امثل هذا ؟ ! ! تلك غطرسة كاذبة ، ونفخة جوفاء .
ويردفون كذبهم بكذبة أخرى فيقولون:{ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} ( إن ) هنا نافية ، أي ما هذا الكلام إلا أحاديث الأولين التي يسمر بها ويقصدونها قطعا للفراغ ، والأساطير جمع أسطورة وهي الأخبار التي يخترعها القصاصون وغيرهم في سمرهم ولهوهم .
وقد روي أن قائل هذا هو النضر بن الحارث ، وكان يتخذ مجلسا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقص فيه أخبار ملوك الفرس ، وأمرائهم ، ونسب القول إلى كلهم ؛ لأنهم ارتضوه وقبلوه وصدقوه . وكل ذلك بهتانا وكذبا .
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنهم قالوا ذلك ورد قولهم ، فقال تعالى:{ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ( 5 ) قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ( 6 )} ( الفرقان ) .